الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه .

اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه فإذا ، عرف العيوب أمكنه العلاج ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم ، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق .

الأول : : أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته وهذا شأن المريد مع شيخه ، والتلميذ مع أستاذه فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه وهذا ، قد عز في الزمان وجوده .

الثاني : أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا فينصبه رقيبا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين .

كان عمر رضي الله عنه يقول : رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي وكان يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له : ما الذي بلغك عني مما تكرهه ؟ فاستعفى فألح عليه فقال بلغني : أنك جمعت بين إدامين على مائدة ، وأن لك حلتين: حلة بالنهار وحلة بالليل، قال، وهل : بلغك غير هذا قال ؟ : لا . فقال : أما هذان فقد كفيتهما وكان يسأل حذيفة ويقول له : أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين ، فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق ? فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه .

فكل من ، كان أوفر عقلا وأعلى منصبا كان أقل إعجابا وأعظم اتهاما لنفسه ، إلا أن هذا أيضا قد عز فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة ، فيخبر بالعيب أو يترك الحسد ، فلا يزيد على قدر الواجب فلا تخلو في أصدقائك عن حسود أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيبا ، أو عن مداهن يخفي عنك بعض عيوبك .

ولهذا كان داود الطائي قد اعتزل الناس فقيل له لم : لا تخالط الناس ? فقال وماذا : أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي فكانت شهوة ذوي الدين أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم ، وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ، ويعرفنا عيوبنا ويكاد هذا أن يكون مفصحا عن ضعف الإيمان ، فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة فلو ، نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربا لتقلدنا منه منة وفرحنا به واشتغلنا بإزالة العقرب وإبعادها وقتلها ، وإنما نكايتها على البدن ويدوم ألمها يوما فما دونه ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبدا وآلافا من السنين ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها ، بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته ، فنقول له : وأنت أيضا تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب وأصل كل ذلك ضعف الإيمان .

فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنه وفضله .

الطريق الثالث أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه ، فإن عين السخط تبدي المساويا ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه ، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه ، فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم .

الطريق الرابع : أن يخالط الناس ، فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق فليطالب ، نفسه به وينسبها ، إليه ، فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ، ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى ، فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره ، وناهيك بهذا تأديبا فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب .

قيل لعيسى عليه السلام من أدبك قال ؟ : ما أدبني أحد ، رأيت جهل الجاهل شينا فاجتنبته وهذا كله حيل من فقد شيخا عارفا ذكيا بصيرا بعيوب النفس مشفقا ناصحا في الدين فارغا من تهذيب نفسه مشتغلا بتهذيب عباد الله تعالى ناصحا لهم فمن وجد ذلك فقد وجد الطبيب فليلازمه فهو الذي يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده .

التالي السابق


(بيان الطريق الذي به يتعرف الإنسان عيوب نفسه) *

(اعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا بصره) أي: جعله بصيرا (بعيوب نفسه) وشغله عن عيوب غيره ، فقد أخرج الرافعي في تاريخ قزوين من حديث ابن عباس: " إذا أردت أن تذكر عيوب غيرك فاذكر عيوب نفسك " (فمن كملت بصيرته لم تخف عليه عيوبه ، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج) كما أن المرض إذا علم أصله يتيسر عليه علاجه بأهون سبب (ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم ، يرى أحدهم القذى) جمع قذاة وهي ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ (في عين أخيه) المؤمن (ولا يرى الجذع في عين نفسه) أخرج ابن المبارك في الزهد ، والعسكري في الأمثال من حديث أبي هريرة : يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع أو قال الجذل في عينيه ، والجذع بالكسر واحد جذوع النخل ، والجذل بالكسر وبالفتح أصل الشجرة يقطع ، وقد يجعل العود جذلا ، وقد رواه أيضا القضاعي في مسند الشهاب وأبو نعيم في الحلية دون قوله: أو قال: الجذل ، وهذا مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به ، وفيه من العيوب بالنسبة إليه كنسبة الجذع إلى القذاة ، وذلك من أقبح القبائح ، ولله در القائل:


أرى كل إنسان يرى عيب غيره * ويعمى عن العيب الذي هو فيه فلا خير فيمن لا يرى عيب نفسه
* ويعمى عن العيب الذي بأخيه



(فمن أراد أن يقف على عيب نفسه فله أربع طرق: الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ) كامل في ذاته مهذب بآداب الشريعة (بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات) كأنه ينظر إليها من وراء ستر خفي ، (ويحكمه على نفسه) أي: يجعله حاكما على نفسه ، ونفسه محكوما عليها فيما يأمر به وينهاه (ويتبع إشارته في مجاهدته) فلا يخالفه فيما يشير له إليه، (وهذا شأن المريد مع شيخه، والتلميذ مع أستاذه) وهو علامة

[ ص: 349 ] فلاحه (فيعرفه شيخه وأستاذه عيب نفسه) إما بالتصريح بأن يقول له عيبك كذا أو خلقك كذا ، وإما بالكناية باختلاف أحوال المريد (ويعرفه طريق علاجه ، فهذا قد عز في هذا الزمان وجوده) وإن وجد شيخ على هذه الصفة لم يوجد من يرشده من المريدين الصادقين ، وإن وجد مريد صادق لم يوجد شيخ كامل بالأوصاف المذكورة ، فهذا سبب عزة الأمر .

(الثانية: أن يطلب صديقا) موافقا (صدوقا) في قوله (بصيرا) بعيوبه مطلعا على خفايا أحواله (متدينا) في نفسه (وينصبه رقيبا على نفسه) ناظرا على حركاته ومكانه (ليلاحظ) بعين بصيرته (أحواله وأفعاله) الصادرة عنه (فما يكرهه من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه) ويرشده إلى ما يناسب حاله (فهكذا كان يفعل الأكثر من أئمة الدين ، كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي) رواه الإسماعيلي والذهبي في مناقب عمر (وكان يسأل سلمان) رضي الله عنهما (عن عيوبه لما قدم عليه) أي: من المدائن (وقال: ما الذي بلغك عني مما كرهته؟ فاستعفى) أي: طلب أن يسكت عن ذلك (فألح عليه) في أن يقوله (فقال: سمعت أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين) حلة بالنهار وحلة بالليل (فقال: هل بلغك غير هذا؟ فقال: لا. فقال: أما هذان فقد كفيتهما) رواه الإسماعيلي والذهبي في مناقب عمر (وكان يسأل حذيفة) بن اليمان رضي الله عنهما (ويقول: أنت صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين ، فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق؟) فيقول: لا يا أمير المؤمنين ، (فهو) رضي الله عنه (على جلالة قدره وعلو منصبه) في الدين (هكذا كانت تهمته لنفسه ، وكل ما كان أوفر عقلا وأعلى منصبا كان أقل إعجابا وأعظم اتهاما لنفسه ، إلا أن هذا أيضا قد عز) وقل (فيقل في الأصدقاء من يترك المداهنة ، فيخبر بالعيب أو يترك الحسد ، فلا يزيد على قدر الواجب) فيه (فلا تخلو في أصدقائك عن حسود) عليك في نعمتك (أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيبا ، أو عن مداهن يخفي عنك بعض عيوبك ، ولهذا كان داود) بن نصير (الطائي) رحمه الله تعالى (قد اعتزل عن الناس وقيل له: لما لا تخالط؟ فقال: ماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي) نقله صاحب القوت (فقد كان شهوة ذوي الدين أن ينبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم ، وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ، ويعرفنا عيوبنا) ، ويعددها علينا (وكاد يكون هذا مفصحا عن ضعف الإيمان ، فإن الأخلاق السيئة) في الإنسان (حيات وعقارب لداغة ، ولو نبهنا منبه على أن تحت ثوب أحدنا عقربا) أو حية (لتقلد منه منة) وجميلا (وفرح بذلك واشتغل بإبعاد العقرب) أو الحية (وقتلها ، وإنما نكايتها على البدن ولا يدوم ألمها إلا يوما فما دونه) وإن زاد فلا يزيد على يوم وليلة (ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب) أي: باطنه (ويخشى أن تدوم بعد الموت أبدا وآلافا من السنين) إلى ما شاء الله (ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها ، بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثله ، فنقول: وأنت أيضا تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه ويشبه أن يكون هذا من قساوة القلب إلى ثمرتها كثرة الذنوب) وفي حديث أبي الخير اليزني أربع خصال تفسد القلوب فساقه، وفيه وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب. أخرجه عبد بن حميد في

[ ص: 350 ] تفسيره (وأصل كل ذلك ضعف الإيمان ، فنسأل الله تعالى أن يعرفنا رشدنا ويبصرنا بعيوب أنفسنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنه وفضله) اللهم آمين .

(الطريقة الثالثة أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه ، فإن عين السخط تبدي المساويا) أي: تظهرها كما أن عين الرضا تكل عن كل عيب (ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه ، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله) له وفيه (على الحسد) المحض (ولكن البصير) الناقد لأحواله (لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه ، فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم) ويبلغ ذلك عنهم ، فيتنبه لما يقولون فيه ، ويتدارك لما فرط منه بمعالجة تلك العيوب وإزالتها عن نفسه مهما أمكن ، ولكل مجتهد نصيب .

(الطريقة الرابعة: أن يخالط الناس ، فكل ما يراه مذموما فيما بين الخلق ، فيطالب نفسه به ، وينسب نفسه إليه ، فإن المؤمن مرآة المؤمن) كما رواه الطبراني في الأوسط والضياء من حديث أنس (فيرى في عيوب غيره عيوب نفسه ، ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى ، فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر) وهو بكسر القاف من يقارن في علم أو غيره، واحد الأقران كحمل وأحمال (عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه فيتفقد نفسه ويطهرها عن كل ما يذمه من غيره ، وناهيك بذلك تأديبا) أي: إليه المنتهى فيه كأنه ينهاك عن غيره (فلو ترك الناس كلهم ما يكرهون من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب) رأسا (قيل لعيسى بن مريم) عليه السلام (من أدبك؟ فقال: ما أدبني أحد ، رأيت جهل الجاهل فجانبته) فهذا أدب يحصل من النفس عند المخالطة ، وذكر الخطيب في تاريخه في ترجمة شريك النخعي في سنده إلى يحيى بن يزيد قال: مر شريك بالمستنير بن عمر والنخعي فجلس إليه فقال: يا أبا عبد الله من أدبك؟ قال: أدبتني نفسي ، ثم ساق قصة خروجه من بخارى وطلبه العلم بالكوفة ، وما انتهى إليه أمره ، فقال المستنير لولده: سمعتم قول ابن عمكم ، وقد أكثرت عليكم في الأدب ، فلا أراكم تفلحون ، فليؤدب كل رجل منكم ، فمن أحسن فلها ، ومن أساء فعليها .

وقيل لبعضهم: من أين تعلمت الحلم؟ قال: من جيراني. وقيل لآخر: من أين تعلمت الأدب؟ قال: من أهل السوق ، رأيت جهلهم فتجنبته (وهذا كله حيل من فقد شيخا عارفا ذكيا بصيرا بعيوب الناس مشفقا ناصحا في الدين فارغا عن تهذيب نفسه) مقبلا (مشغولا بتهذيب عباد الله نصحا لهم) وابتغاء لمرضاة الله تعالى (فمن وجد ذلك وجد الطبيب) لأمراضه (فليلازمه فهو الذي يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده) وإن لم يوجد فليتنبه للطرق الثلاثة: إما بتأدب من صديقه ، أو من عدوه ، أو من خليطه ، ولا أقل من ذلك؛ فقد روى الديلمي بإسناد جيد من حديث أم سلمة: " إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه " . والله الموفق .




الخدمات العلمية