الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اذكر أنك ساكن القبر ، فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات . وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة ، وتمرين النفس عليها ، ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة ، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة حتى روي أن وهب بن منبه قال التقى ملكان في السماء الرابعة ، فقال أحدهما للآخر : من أين قال أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله وقال الآخر : أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد فهذا تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل ، وقال : اعزلوا عني حسابها فلا عبادة لله تعالى أعظم من مخالفة النفس في الشهوات بالشهوات وترك اللذات كما أوردناه في كتاب رياضة النفس ، وقد روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان مريضا فاشتهى سمكة طرية ، فالتمست له بالمدينة ، فلم توجد ثم وجدت بعد كذا وكذا فاشتريت له بدرهم ونصف ، فشويت وحملت إليه على رغيف فقام سائل على الباب ، فقال للغلام لفها برغيفها وادفعها إليه فقال له الغلام : أصلحك الله ، قد اشتهيتها منذ كذا وكذا ، فلم نجدها ، فلما وجدتها اشتريتها بدرهم ونصف فنحن ، نعطيه ثمنها . فقال : لفها وادفعها إليه . ثم قال الغلام للسائل هل لك أن تأخذ درهما وتتركها ؟ قال نعم ، فأعطاه درهما وأخذها وأتى بها ، فوضعها بين يديه ، وقال : قد أعطيته درهما وأخذتها منه . فقال : لفها وادفعها إليه ، ولا تأخذ منه الدرهم ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له وقال صلى الله عليه وسلم : إذا سددت كلب الجوع برغيف ، وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا وأهلها الدمار أشار إلى أن المقصود رد ألم الجوع والعطش ودفع ضررهما دون التنعم بلذات الدنيا وبلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان يأكل أنواع الطعام فقال ، عمر لمولى له : إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه ، فأعلمني ، فأعلمه ، فدخل عليه ، فقرب عشاؤه ، فأتوه بثريد لحم ، فأكل معه عمر ، ثم قرب الشواء وبسط يزيد يده ، وكف عمر يده ، وقال : الله الله ، يا يزيد بن أبي سفيان ، أطعام بعد طعام ، والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم وعن يسار بن عمير قال : ما نخلت لعمر دقيقا قط إلا وأنا له عاص وروي أن عتبة الغلام كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس ، ثم يأكله ، ويقول : كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء والطعام الطيب ، وكان يأخذ الكوز فيغرف به من جب كان في الشمس نهاره .

فتقول مولاة له : يا عتبة ، لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء . فيقول لها : يا أم فلان ، قد شردت عني كلب الجوع .

قال شقيق بن إبراهيم لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم يبكي وهو جالس بناحية من الطريق فعدلت إليه وقعدت عنده وقلت: أيش هذا البكاء يا أبا إسحاق؟ فقال: خير، فعاودته مرة واثنتين وثلاثا، فقال: يا شقيق استر علي، فقلت: يا أخي قل ما شئت، فقال لي: اشتهت نفسي منذ ثلاثين سنة سكباجا فمنعتها جهدي حتى إذا كان البارحة كنت جالسا وقد غلبني النعاس، إذ أنا بفتى شاب بيده قدح أخضر يعلو منه بخار ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتي عنه، فقربه، وقال: يا إبراهيم، كل، فقلت: ما آكل، قد تركته لله عز وجل فقال لي: قد أطعمك الله، كل. فما كان لي جواب إلا أني بكيت، فقال لي: كل، رحمك الله! فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا من حيث نعلم، فقال: كل، عافاك الله! فإنما أعطيته فقيل لي: يا خضر اذهب بهذا وأطعمه نفس إبراهيم بن أدهم؛ فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من منعها، اعلم يا إبراهيم أني سمعت الملائكة يقولون: من أعطي فلم يأخذ طلب فلم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لأجل العقد مع الله تعالى، ثم التفت فإذا أنا بفتى آخر ناوله شيئا، وقال: يا خضر، لقمه أنت. فلم يزل يلقمني حتى نعست، فانتبهت وحلاوته في فمي، قال شقيق: فقلت: أرني كفك، فأخذت بكفه فقبلتها وقلت: يا من يطعم الجياع الشهوات إذا صححوا المنع، يا من يقدح في الضمير اليقين، يا من يشفي قلوبهم من محبته، أترى لشقيق عندك حالا؟ ثم رفعت يد إبراهيم إلى السماء وقلت: بقدر هذا الكف عندك وبقدر صاحبه وبالجود الذي وجد منك جد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك ورحمتك، وإن لم يستحق ذلك! قال: فقام إبراهيم ومشى حتى أدركنا البيت .

التالي السابق


(وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام) : يا موسى (اذكر أنك ساكن القبر، فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات. وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة، وتمرين النفس عليها، ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة) ، ومن هنا قول العامة: ومن العصمة ألا تجد، (حتى روي أن وهب بن منبه) اليماني رحمه الله تعالى قال: (التقى ملكان في السماء الرابعة، فقال أحدهما للآخر: من أين) مجيئك هذا؟ (قال [ ص: 413 ] أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله) تعالى، (وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد) فقد ادخر الله له في الآخرة كل ذلك. ذكره صاحب القوت .

(وهذا) فيه .

(تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير ) ، فلا يفرح بمثله، وقد انقطع بمثله خلق كثيرون يرون الشهوات تساق إليهم فيعدونها منة عظيمة، فيكون سبب إخلادهم في النقص، (ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل، وقال: اعزلوا عني حسابها) . رواه جعفر بن سليمان ، حدثنا حوشب عن الحسن قال: أتي عمر بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها .

وروى سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: اشتهى عمر الشراب، فأتي بشربة من عسل، فجعل يدير الإناء في يده ويقول: لا أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى مرارتها، ثم وضعها إلى رجل من القوم فشربها ، وإنما قال ذلك لأنه علم أنه حلال، وفي الحلال حساب، وفي الحساب نوع عذاب، فمن حوسب نوقش، وقد أشار إلى ذلك أبو سعيد الخراز حين نوع الجوع فقال: ومنهم من وجد الشيء الصافي فتركه زهدا فيه؛ من مخافة طول الحساب والوقوف والسؤال، (فلا عبادة لله أعظم من مخالفة الشهوات وترك اللذات ) ، وإن كانت مباحة (كما أوردناه في كتاب رياضة النفس، وقد روى نافع عن ابن عمر ) رضي الله عنه، (أنه كان مريضا فاشتهى سمكة طرية، فالتمست له بالمدينة ، فلم توجد) ، أي: لبعدها عن البحر، (فوجدت بعد كذا وكذا) يوما، (فاشتريت) له (بدرهم ونصف، فشويت) على النار، (وحملت إليه على رغيف) ليأكل، (فقام سائل على الباب، فقال) ابن عمر (للغلام) وهو نافع : (لفها برغيفها وادفعها إليه) ، أي: إلى السائل. (فقال له الغلام: أصلحك الله، قد اشتهيتها منذ كذا وكذا، فلم نجدها، فلما وجدناها اشتريناها بدرهم ونصف، نحن نعطيه ثمنها. فقال: لفها وادفعها إليه. ثم قال) أي: الغلام (له) للسائل، (هل لك أن تأخذ درهما وتتركها؟ قال) السائل: (نعم، فأعطاه درهما وأخذها وأتى بها ثانيا، فوضعها بين يديه، وقال: قد أعطيته درهما وأخذتها منه. فقال: لفها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه الدرهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له ) ، قال العراقي : رواه الشيخ ابن حبان في الثواب بإسناد ضعيف جدا، ورواه ابن الجوزي في الموضوعات .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا استد) بالسين المهملة، وفي نسخة العراقي إذا سددت (كلب الجوع) بتحريك اللام، وهو الحرص على الأكل الكثير (برغيف، وكوز من الماء القراح) ، الذي لا يشوبه شيء، وفي غالب النسخ بدون ذكر القراح، (فعلى الدنيا وأهلها الدمار) ، أي: الهلاك .

(أشار) صلى الله عليه وسلم (إلى أن المقصود) من الأكل (رد كلب الجوع) أي: شدته، (ودفع ضرره دون التنعم بلذات الدنيا) ، قال العراقي : رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، اهـ .

قلت: ورواه ابن عدي والبيهقي ، ولكن لفظ الحديث عندهم: "يا أبا هريرة إذا اشتد كلب الجوع، فعليك برغيف وجر من ماء القراح، وقل على الدنيا وأهلها الدمار" . وفي إسناده الحسين بن عبد الغفار الأزدي ، قال الذهبي : متهم، وقال الدارقطني : متروك، وفيه أيضا أبو يحيى الوقار ، قال الذهبي : كذوب، وفيه أيضا الماضي بن محمد ، قال الذهبي : مصري مجهول، وقال أبو حاتم : الحديث الذي رواه باطل، وليس المراد من قوله: فعلى الدنيا وأهلها الدمار، الدعاء عليهم بالهلاك، بل إنزالهم منزلة الهالكين؛ فإن من هلك لا يقدر على شيء، وكذلك الدنيا وأهلها، والقصد الحث على التقنع باليسير، والزهد في الدنيا والإعراض عن شهواتها، (وبلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان) بن حرب الأموي -أخو معاوية ، أسلم يوم الفتح، وكان أفضل بني أمية ، أمره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة- (يأكل أنواع الطعام، قال عمر لمولى له:) يقال: له يرفا، (إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه، فأعلمني، فأعلمه، فدخل عليه، فقرب عشاؤه، فأتوه بثريد ولحم، فأكل معه [ ص: 414 ] عمر ، ثم قرب الشواء) أي: اللحم المشوي، (فبسط يزيد يده، وكف عمر يده، وقال: الله الله، يا يزيد بن أبي سفيان ، أطعام بعد طعام، والذي نفسي بيده لئن خالفتم عن سننهم ليخالفن بكم عن طريقهم) ، رواه إسماعيل بن عياش : حدثني يحيى الطويل عن نافع ، عن ابن عمر قال: بلغ عمر أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام، فقال ليرفا: إذا حضر طعامه فأعلمني. فساقه، وفيه: "والذي نفس محمد بيده إن خالفتم عن سنته ليخالفن بكم عن طريقه" . فأشار عمر إلى أنهم كانوا يكتفون بطعام واحد ولون واحد، ولا يزيدون، فمن خالف نهجهم الذي سلكوه خولف به عن طريقهم، والخير كل الخير في اتباع السلف، (وعن يسار بن عمير ) مولى عمر ، ثقة، نزل الكوفة ، ليس له في الكتب الستة شيء، وإنما ذكره الحافظ في التهذيب للتمييز بينه وبين يسار مولى ابن عمر ، (قال: ما نخلت لعمر دقيقا قط إلا وأنا له عاص) ، رواه الأعمش عن شقيق عنه، أي: لم يكن يأمرني بنخله، فإذا نخلته خالفت أمره، وكنت عاصيا له .

(وروي أن عتبة) بن أبان (الغلام) رحمه الله تعالى (كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس، ثم يأكله، ويقول: كسرة وملح حتى يتهيأ لي في الآخرة الشواء والطعام الطيب، وكان يأخذ الكوز فيغرف به من حب) بضم الحاء، وهو دون الماء، (كان في الشمس نهاره، فتقول مولاة له: يا عتبة ، لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء. فيقول لها: يا أم فلان، قد سددت عني كلب الجوع) ، أي: شدته .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا أبو محمد بن حبان ، حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا أحمد الدورقي ، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي ، حدثني أبي عن بكر قال: "كان عتبة يأخذ دقيقه فيبله بالماء ويعجنه، ويضعه في الشمس حتى يجف، فإذا كان الليل جاء فأخذه وأكل منه لقما، قال: ثم يأخذ الكوز فيغرف من حب كان في الشمس نهاره، فتقول مولاة له: يا عتبة ، لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك، وبردت لك الماء. فيقول لها: يا أم فلان، قد سددت عني كلب الجوع". وحدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا جعفر بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن الجنيد ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن الفرج العابد قال: "كان عتبة يعجن دقيقه في الشمس، ثم يأكله ويقول: كسرة وملح حتى يتهيأ في الدار الأخرى الشواء والطعام الطيب" .




الخدمات العلمية