الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان آفة الرياء المتطرق إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام .

اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان ، هما أعظم من أكل الشهوات .

إحداهما أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات ، فتشتهيها ، ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها ، فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة وهذا هو الشرك الخفي سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد ، فسكت عنه ، فقيل له : هل تعلم به بأسا ؟ قال : يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة وهذه آفة عظيمة ، بل حق العبد إذا ابتلي بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان ، والكذب مع الإخفاء كذبان فيكون مستحقا لمقتين ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين .

، ولذلك شدد أمر المنافقين فقال تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار لأن الكافر كفر وأظهر وهذا كفر وستر فكان ستره لكفره كفرا آخر ; لأنه استخف بنظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه ، وعظم نظر المخلوقين ، فمحا الكفر عن ظاهره والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء بل كمال العارف أن يترك الشهوات لله تعالى ويظهر من نفسه الشهوة ؛ إسقاطا لمنزلته من قلوب الخلق وكان بعضهم يشتري الشهوات ويعلقها في البيت وهو فيها من الزاهدين وإنما يقصد به تلبيس حاله ليصرف عنه نفسه قلوب الغافلين حتى لا يشوشون عليه حاله .

فنهاية الزهد الزهد في الزهد ، بإظهار ضده وهذا عمل الصديقين فإنه جمع بين صدقين ، كما أن الأول جمع بين كذبين ، وهذا قد حمل على النفس ثقلين وجرعها كأس الصبر مرتين ; مرة بشربه ، ومرة برميه فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ، وهذا يضاهي طريق من يعطي جهرا فيأخذ ويرد سرا ليكسر نفسه بالذل جهرا وبالفقر سرا فمن فاته هذا فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه ، والصدق فيه ولا ينبغي أن يغره قول الشيطان : إنك إذا أظهرت اقتدى بك غيرك ، فاستره ؛ إصلاحا لغيرك فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه في معرض إصلاح غيره ، فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه واعلم ، أن من اطلع عليه ليس يقتدى به في الفعل أو لا ، ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات .

التالي السابق


(بيان آفة الرياء المتطرق إلى من ترك أكل الشهوات أو قلل الطعام )

[ ص: 426 ] (اعلم) وفقك الله تعالى (أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان، هما) في الحقيقة (أعظم من أكل الشهوات) ، فينبغي للمريد أن يتعاهد نفسه من طروهما، (إحداهما ألا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات، فتشتهيها، ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها، فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة ) ، وليس هذا من طريق الموقنين، ولا مسلك الصادقين، (وهذا هو الشرك الخفي) ، كذا في سائر نسخ الكتاب، والأولى: وهذا من الشهوة الخفية ، وهي التي جاء في الخبر: "أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية" . فالرياء بالمعاملات وخفي الشهوة أن يشتهي أن يعرف ويوصف بترك الشهوات، كما هو في سياق القوت، وليس فيه ذكر للشرك الخفي، وإن كان بحسب المعنى صحيحا، (سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد، فسكت عنه، فقيل له: هل تعلم به بأسا؟ قال:) لا، إلا في شيء واحد مكروه، (يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة) ، فأعله بذلك، كذا في القوت، قال: ولعمري إنه موضع علة; لأن الصادقين قد كانوا يأكلون في الجماعة ما لا يأكلون في الخلوة، فهذا ضد حالهم .

(وهذه آفة عظيمة، بل حق العبد إذا ابتلي بالشهوات) أي: بأكلها (وحبها أن يظهرها) ، ولا يخفيها، وليشترها بنفسه ولا يسترها، (فإن هذا) من (صدق الحال) ، وهو طريق السلف، (ويدل عن فوات المجاهدات بالأعمال) قالوا: إن فاتته المجاهدة في الأعمال، فلا يفوتنه الصدق في الحال، وإن لم يكن صديقا فليصدق في كذبه، فإن الصدق في الكذب أصل الصدقين، (فإن إخفاء) الكذب، و (النقص وإظهار ضده من) الإخلاص (والكمال) ، هما (نقصانان متضاعفان، والكذب مع الإخفاء) ، هما (كذبان) ; لأنه نقص، وأظهر حال الكاملين، واعتل وأبدى شعار المعصومين، فكذب من طريقين، (فيكون مستحقا لمقتين) ، أي: للمقت من وجهين، (فلا يرضى منه إلا بتوبتين، ولذلك شدد الله) تعالى، (أمر المنافقين) ، فغضب عليهم ومقتهم مقتين، ثم لم يرض منهم إلا بتوبتين، واشترط عليهم شرطين، (فقال تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) يعني أسفل من الكفار; (لأن الكافر كفر وأخلص) في كفره، (وأظهره) فسوى بين ظاهره وباطنه، (وهذا) أي: المنافق (كفر) وأشرك في إيمانه، (فستر) فخالف بين ظاهره وباطنه، (فكان ستره الكفر كفرا آخر; لأنه استخف بنظر الله تعالى إلى قلبه، وعظم نظر المخلوقين، فمحا الكفر عن ظاهره) ، فزاد الله في هوانه وشدد في توبته بما وكده في شرطه، فقال: إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ، وهذا مما لا يمتحن به عالم بالله تعالى، ولا غافل عن الله تعالى، ولله الحمد .

(والعارفون) قد (يبتلون بالشهوات) أي: بأكلها، (بل بالمعاصي) والذنوب؛ لما تجري عليهم، (ولا يبتلون بالرياء) ، أي: رياء المخلوقين، (والغش والإخفاء) ، وليس للسلف في هذا الباب إلا طريقان، أحدهما ما أشار المصنف بقوله: ( وكمال العارف أن يترك الشهوات لله تعالى ) ويجاهد النفس (في الله تعالى) ، والعارفون في طريق هذه المجاهدة على قسمين، فمنهم من كان يخفيه; لأنه أسلم له، ومنهم من كان يظهره; لأنه مؤمن قوي، نيته في ذلك القدوة والتأسي، وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله: (ويظهر من نفسه الشهوة؛ إسقاطا لمنزلته من قلوب الخلق) ، وطريق آخر كان فيه طائفة من العلماء والعاملين، فكانوا يأكلون الطيبات ويتسعون في المآكل إذا وجدوها، إلا أنهم كانوا يظهرون ذلك ويكشفون نفوسهم به، فإن فاتك الطريق الأقرب الأعلى، فاسلك الطريق الأسلم الأوسط، فإما أن يكون عبدا يأكل بالشهوات في السر ويخفيها في العلانية، أو يظهر شعار ضدها من الترك لها والزهد فيها، فليس هذا طريق الموقنين، ولا مسلك الصادقين، هذا قد عرج عن طريق المسالك، وسلك سبيل المهالك، فإياك أن تترك محجة الطريق فتقع في حيرة المضيق .

روي أن عابدا من بني إسرائيل انتهى من سياحته إلى أرض لقوم رأى في وسطها طريقا مستطرقا تسلك فيه السابلة، فقال: هذه أرض لقوم كيف أسلكها. شق عليه أن يجاوز الأرض، فيبعد عليه طريقه، فتفكر وقال: هذا طريق مسلوك لا بأس علي أن أسلكه. فسلكه، فلما خرج من تلك الأرض عوقب على ذلك ونسي ذنبه، فجعل يستكشف، فقيل له: لأنك سلكت علي على غير طريق، ودخلت حرث قوم بغير إذنهم. فقال: يا رب، معذرة إليك؛ [ ص: 427 ] إني رأيته قد جعل طريقا. فأوحى الله إليه: أوكلما اتخذ الظالمون طريقا جعلته إلي سبيلا؟! فمن سلك طريق ظالم بغرور لم يكن في ذلك معذورا، وأوقعه في الحيرة والغرور، فهلك وأهلك من اقتدى به، وهذا طريق متصنع جاهل، متطرق بذلك إلى الدنيا، يتسوق عند الناس بترك الشهوات، مظلم التوحيد في الوحدة، ضعيف اليقين في غيبته عن العيون، (وقد كان بعضهم) من الصادقين من السلف (يشتري الشهوات بنفسه) ، ويعلقها في البيت، ويظهر للناس شعار الزاهدين، (وهو فيها) عند الله (من الزاهدين) ، لا يأكلها، (وإنما يقصد بذلك) إسقاط منزلته من قلوب الجاهلين، و (التلبيس) أي: الإخفاء (لحاله) عن الناظرين; (ليصرف عن نفسه قلوب الغافلين) ويشتري بالمعاملات؛ لتنقطع عنه المقالات، (حتى لا يتشوش حاله) ; لأن هذا مقام من زهد في الأشياء، وأخفى زهده، (فنهاية) إخفاء (الزهد الزهد في الزهد، بإظهار ضده) ، واستشعار المزهود فيه، ثم لا يتناول ولا يتمتع به، فيكون هذا أشد على النفس من المجاهدة، (وهذا عمل الصديقين) ، وحال الصادقين، وطريق الأقوياء من أهل الإرادات؛ (فإنه جمع بين صدقين، كما أن الأول جمع بين كذبين، وهذا قد حمل على النفس ثقلين) ، ثقل المنع من الحظ، وثقل سقوط المنزلة عند الخلق، فعدمت النفس لذة المتعة به، وفقدت إثبات المنزلة بتركه، (وجرعها كأس الصبر مرتين; مرة بشربه، ومرة برميه) ، وقذفه، (فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، وهذا يضاهي طريق من يعطي جهرا) وعلانية، (فيأخذ ويرد سرا) ، وخفية (ليكسر نفسه في الأخذ بالذل جهرا) ; إذ فيه سقوط الجاه بظهور الرغبة، (وبالفقر) والزهد (سرا) ، فلا هو متع نفسه بالجاه مع الرد، ولا هو أنالها حظها بتناوله مع الأخذ، وهذا من أشد شيء على النفس، وهو طريق علماء الزهاد، ومن أخرجه سلكه إلى مقام الصديقية، وهذان طريقان قد درسا وعفا أثرهما في هذا الزمان، وما قبله بكثير، لا يسلكه إلا من عرفه الفرد بعد الفرد، والسابلة من القراء على طرقات التصنع والتزين برآء، (فمن فاته هذا) الطريق الأقرب الأسهل، (فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه، والصدق فيه) ؛ فإنه أيضا محجة الطريق، ومن لم يسلكها وقع في حيرة المضيق، (فلا ينبغي أن يغره قول الشيطان: إنك إن أظهرت) ذلك للناس (اقتدى بك غيرك، فاستره؛ إصلاحا لغيره) ، وهذا غرور، (فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره) ، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، (فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه) ويزينه له، (في معرض إصلاح غيره، فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه، وإن علم أن من اطلع عليه ليس يقتدي به في الفعل، ولا ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات) .




الخدمات العلمية