الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار وأنت ترى أن ساحة المسجد لا تنقبض بالنخامة ومعناه أن ، روح المسجد كونه ، معظما ورمي النخامة فهو تحقير له ؛ فيضاد معنى المسجدية ، مضادة النار ; لاتصال أجزاء الجلدة ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار " وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ، ولا يكون ، ولكن من حيث المعنى هو كائن ، إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته لكونه وشكله ، بل بخاصيته وهي البلادة والحمق ، ومن رفع رأسه قبل الإمام فقد صار رأسه رأس حمار في معنى البلادة والحمق ، وهو المقصود دون الشكل الذي هو قالب المعنى .

إذ من غاية الحمق أن يجمع بين الاقتداء وبين التقدم فإنهما متناقضان .

وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر إما بدليل عقلي أو شرعي .

أما العقلي فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن كقوله صلى الله عليه وسلم : " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن .

التالي السابق


(ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المسجد لينزوي) أي: ينقبض (من النخامة) ، وهي بالضم ما يلقيه الإنسان من فمه أو أنفه (كما تنزوي الجلدة عن النار) أي: عن مماستها، قال العراقي: هذا لم أر له أصلا في المرفوع، وإنما هو في قول أبي هريرة، رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. اهـ .

قلت: ورواه كذلك عبد الرزاق موقوفا على أبي هريرة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى نخامة في المسجد في القبلة، فقال: "ما بال أحدكم مستقبل ربه فينخع أمامه؟! أيحب أحدكم أن يستقبل فينخع في وجهه؟" (وأنت ترى أن ساحة المسجد لا تنقبض بالنخامة، و) الذي يظهر فيه أن (معناه روح المسجد، وكونه معظما) في القلوب؛ لكونه محل التقرب إلى الله تعالى .

(ورمي النخامة فيه تحقير له؛ فيضاد معنى المسجدية، مضادة النار; لاتصال أجزاء الجلدة، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-) فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه ("أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار") أو يجعل الله صورته صورة حمار [ ص: 76 ] وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، كذلك كلهم في الصلاة، وفي رواية: "ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه"، أي: من السجود، فهو نص فيه، وعند أبي داود زيادة: "والإمام ساجد"، وهو دليل على التخصيص، وألحق به الركوع؛ لكونه في معناه، وإنما نص على السجود لمزيد مزية فيه، إذ المصلي أقرب ما يكون من ربه فيه، وهو غاية الخضوع المطلوب، كذا في الفتح، وعند ابن خزيمة "قبل الإمام في صلاته"، وقوله "رأسه" أي: التي خبثت بالرفع تعديا، رأس حمار، وفي رواية ابن حبان "رأس كلب".

(وذلك من حيث الصورة قط لم يكن، ولا يكون، ولكن من حيث المعنى هو كائن، إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته للونه وشكله، بل بخاصيته اللازمة فيه، وبلادته) وحمقه (ومن رفع رأسه قبل الإمام) في ركوعه أو سجوده (فقد صار رأسه رأس حمار في) جامع، هو (معنى البلادة والحمق، وهو المقصود) من الحديث (دون الشكل الذي هو قالب المعنى؛ إذ من غاية الحمق أن يجمع بين الاقتداء) بإمام (وبين التقدم) عليه (فإنهما متناقضان) وفي حكمه الذي يسبق الإمام في حركاته كلها، ولكن النص إنما أتى فيمن يرفع قبله، وهذا الذي ارتضاه المصنف في تقرير معنى الحديث هو صحيح لا غبار عليه، وعلم منه أنه كبيرة؛ للتوعد عليه بأشنع العقوبات وأبشعها، وهو المسخ المعنوي، ولكن لا تبطل صلاته عند الشافعية، وأبطلها أحمد، كالظاهرية.

ويجوز أن يحمل معنى الحديث على الحقيقة على ما عليه الأكثر من وقوع المسخ في هذه الأمة، ولا يلزم من الوعيد الوقوع، وقال صاحب الفيض: ليس للتقدم على الإمام سبب إلا الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر بأنه لا يسلم قبله، ويروى عن جابر بن ماجه (إنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر) أي: من منطوق اللفظ (إما بدليل عقلي أو شرعي، أما العقلي) وهو الذي يكون مستنده من طريق العقل (بأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن") أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (فأقره السلف -رحمهم الله تعالى- على ظاهره من غير تفسير) وسيأتي أن الإمام أحمد حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ: أحدها هذا الحديث، كما سيأتي قريبا في كلام المصنف .




الخدمات العلمية