الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رد شهادة رجل في كذبة كذبها .

وقال صلى الله عليه وسلم : كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم ، إلا الخيانة والكذب .

وقالت عائشة رضي الله عنها ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب ، فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها .

وقال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك خير لك عملا ؟ قال : من لا يكذب لسانه ، ولا يفجر قلبه ، ولا يزني فرجه وقال لقمان لابنه يا بني ، إياك والكذب ؛ فإنه شهي كلحم العصفور ، عما قليل يقلاه صاحبه .

وقال صلى الله عليه وسلم في مدح الصدق : أربع إذا كن فيك لا يضرك ما فاتك من الدنيا صدق الحديث وحفظ الأمانة وحسن خلق وعفة طعمة .

وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقامي هذا عام أول . ثم بكى وقال : عليكم بالصدق ؛ فإنه مع البر ، وهما في الجنة .

التالي السابق


(وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة كذبها ) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في الصمت، من رواية موسى بن شيبة مرسلا، وموسى روى معمر عنه مناكير، قاله أحمد بن حنبل . اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو حذيفة الفزاري ، حدثنا عبد الرحمن بن مسعود الزجاج الموصلي عن معمر بن شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة . قال الحافظ في التهذيب: موسى بن شيبة، أو ابن أبي شيبة مجهول، روى له أبو داود في المراسيل، وقال الذهبي في الكاشف: قال أحمد : أحاديثه مناكير. وقال أبو حاتم : صالح ، روى عنه الحميدي .

(وقال صلى الله عليه وسلم: على كل خصلة يطبع) ، أي: يمكن أن يطبع، وهي رواية الجماعة، كما سيأتي، (أو) قال: (يطوى) وهي رواية حديث أبي مسعود (عليها المؤمن، إلا الخيانة والكذب) ، فلا يطبع عليهما، وإنما يحصل ذلك بالتطبع، ولهذا صح سلب الإيمان عنه في قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ، ولا معارضة بين استثناء الخصلتين هنا، وخبر: "من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق" ; لأن خلف الوعد داخل في الكذب، والفجور من لوازم الخيانة ، قال العراقي : رواه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث أبي أمامة ، ورواه ابن عدي في مقدمة الكامل من حديث سعد بن أبي وقاص وابن عمر ، وأبي أمامة أيضا، ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت من حديث سعد مرفوعا وموقوفا، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الدارقطني في العلل. اهـ .

قلت: ورواه أيضا أبو يعلى في المسند، والضياء في المختارة من حديث سعد بلفظ: "كل خلة يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" ، رواه البزار من حديثه بلفظ: "يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب" . ورواه الدارقطني في الأفراد، وابن عدي والبيهقي وابن النجار من حديثه بلفظ: "يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب" ، ورواه البيهقي من حديث ابن عمر بلفظ: "يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب" ، ورواه الطبراني كذلك، ورواه أحمد من حديث أبي أمامة : "يطبع الله على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب" ، وقال ابن أبي الدنيا في الصمت: حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا علي بن هاشم : سمعت الأعمش ذكره عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل خلة يطبع أو يطوى عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" . وهذا أشبه بسياق المصنف، ثم قال: وحدثنا أحمد بن جميل ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا سفيان ، وشعبة عن سلمة بن كهيل ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد قال: "كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" . قال: وأنبأنا أحمد بن جميل ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا سفيان عن منصور ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود قال: "كل الخلال يطوى عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" . قال الحافظ السخاوي في المقاصد: وأمثلها حديث سعد ، لكن ضعف البيهقي رفعه، وقال الدارقطني : الموقوف أشبه بالصواب. اهـ .

ومع ذلك فهو مما يحكم له بالرفع، على الصحيح؛ لكونه مما لا مجال للرأي فيه، (وقالت عائشة ) رضي الله عنها: ( ما كان من خلق أشد عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذبة، فما تنحل من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث لله عز وجل منها توبة ) قال العراقي : رواه أحمد من حديث عائشة ، ورجاله ثقات، إلا أنه قال: عن ابن أبي مليكة أو غيره، وقد رواه أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين ، فقال: عن [ ص: 519 ] ابن أبي مليكة ، ولم يشك، وهو صحيح. اهـ .

قلت: وأخرجه ابن أبي الدنيا ، عن علي بن الجعد ، أنبأنا نصر بن طريف الباهلي ، حدثنا إبراهيم بن ميسرة عن عبيد بن سعد ، عن عائشة قالت: ما كان.. فذكره، (وقال موسى عليه السلام: يا رب، أي عبادك خير عملا؟ قال: من لا يكذب لسانه، ولا يفجر قلبه، ولا يزني فرجه) أخرجه ابن أبي الدنيا عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي ، أنبأنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمن بن ثروان بن قيس ، عن هذيل بن شرحبيل قال: قال موسى عليه السلام: رب، أي عبادك.. فساقه (وقال لقمان ) لابنه: (يا بني، إياك والكذب؛ فإنه شهي كلحم العصفور، عما قليل يقلاه صاحبه) .

أخرجه ابن أبي الدنيا ، عن إبراهيم بن عبد الله ، أنبأنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال: قال لقمان لابنه.. فساقه .

(وقال صلى الله عليه وسلم في مدح الصدق: أربع ) خصال (إذا كن فيك فلا يضرك ما فاتك من الدنيا) أي: لا بأس عليك وقت فوت الدنيا إن حصلت هذه الخلال، (صدق حديث) أي: ضبط اللسان، وعفته عن الكذب، والبهتان، (وحفظ أمانة) بأن يحفظ جوارحه، وما ائتمن عليه، (وحسن خليقة) بأن يكون حسن العشرة مع الناس، (وعفة طعمة) بألا يطعم حراما، ولا ما قويت الشبهة فيه، ولا يزيد على الكفاية حتى من الحلال، ولا يكثر الأكل، وأطلق الأمانة لتشيع في جنسها، فيراعي أمانة الله في التكاليف، وأمانة الخلق في الحفظ، والأداء، قال العراقي : رواه الحاكم والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عبد الله بن عمرو ، وفيه ابن لهيعة . اهـ .

قلت: قال الخرائطي : حدثنا بن حرب الموصلي ، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن ابن حجيرة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره مثل سياق المصنف، ورواه كذلك الطبراني في الكبير، ورواه أحمد ، والطبراني أيضا، والبيهقي من حديث ابن عمر بلفظ: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم . وفي سند البيهقي شعيب بن يحيى ، قال ابن أبي حاتم : ليس بمعروف، وقال الذهبي : بل ثقة، عن ابن لهيعة ، وفيه ضعف، ورواه ابن عدي ، وابن عساكر من حديث ابن عباس ، قال الهيثمي : إسناد أحمد والطبراني حسن، وقال المنذري : رواه أحمد ، وابن أبي الدنيا والطبراني ، والبيهقي بأسانيد حسنة، (وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول. ثم بكى) أبو بكر (وقال: عليكم بالصدق؛ فإنه مع البر، وهما في الجنة) ، وإياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار .

أخرجه ابن أبي الدنيا من طريق أوسط بن إسماعيل البجلي ، وقد تقدم الكلام عليه في أول هذه الآفة، وقد روي نحو ذلك من قول ابن مسعود ، قال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا شعبة ، أخبرني عمرو بن مرة ، سمعت مرة الهمداني قال: كان عبد الله يقول: عليكم بالصدق؛ فإنه يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ويثبت البر في قلبه، فلا يكون للفجور موضع إبرة يستقر فيها . وقد روي ذلك مرفوعا، قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا" .

(تنبيه) :

إيراد المصنف هذا هنا وفيما تقدم يوهم أن ذلك الكلام مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام أبي بكر رضي الله عنه; لأن ضمير "ثم بكى" و"قال" يرجع إليه، لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا لو ذكره في الآثار كان أليق .




الخدمات العلمية