الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان كفارة الغيبة .

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ؛ ليخرج به من حق الله سبحانه ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله ، إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع ، وفي الباطن لا يكون نادما ، فيكون قد قارف معصية أخرى وقال الحسن يكفيه الاستغفار دون الاستحلال وربما استدل في ذلك بما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال مجاهد : كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه ، وتدعو له بخير وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة قال أن : تمشي إلى صاحبك ، فتقول له : كذبت فيما قلت ، وظلمتك وأسأت ، فإن شئت أخذت بحقك ، وإن شئت عفوت وهذا هو الأصح .

التالي السابق


(بيان كفارة الغيبة )

(اعلم أن الواجب على المغتاب) أصله "مغتيب" على صيغة اسم الفاعل، وقد تشترك الصيغتان وتتميزان بالقرينة، (أن يندم ويتوب) إلى الله تعالى، (ويتأسف على ما فعله؛ ليخرج من حق الله تعالى) إذ عصاه بمخالفة نهيه، (ثم يستحل المغتاب) ، وهي صيغة اسم المفعول أي: يطلب منه العفو; لأنه ظلمه بغيبته (ليحله) أي: يعفو عنه، (فيخرج من مظلمته) ، فالغيبة يتعلق بها حقان : عصيان الله، وظلم العبد، فلابد من التوبة والاستحلال، (وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله، إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع، وفي الباطن لا يكون نادما، فيكون قد قارف معصية أخرى) وهي المراءاة بفعله، (وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (يكفيه الاستغفار) له، (دون الاستحلال) منه، (وربما احتج في ذلك بما روى أنس بن مالك ) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفارة من اغتبت أن تستغفر له ) رواه ابن أبي الدنيا عن أبي عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثنا أبي، حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي ، عن خالد بن يزيد ، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فساقه، وقد رواه كذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده، والخرائطي في المساوئ، والبيهقي في الشعب، وأبو الشيخ في التوبيخ، والدينوري في المجالسة، والخطيب في التاريخ، وآخرون، كلهم من طريق عنبسة عن خالد بن يزيد ، عن أنس به مرفوعا، ولفظ بعضهم: كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته، وعنبسة ضعيف، وقد رواه الخرائطي من غير طريقه من جهة أبي سليمان الكوفي ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا، بلفظ: إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، تقول: اللهم اغفر لنا وله . وهو ضعيف أيضا، ولكن له شواهد، فعند أبي نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل، كلاهما من حديث أبي داود سليمان بن عمرو النخعي عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، مرفوعا: "من اغتاب أخاه فاستغفر له، فهو كفارة له" . والنخعي ممن اتهم بالوضع، وعند الدارقطني من حديث [ ص: 559 ] حفص بن عمر الأيلي ، عن سهل بن لاحق ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر مرفوعا: "من اغتاب رجلا، ثم استغفر له من بعد ذلك، غفرت له غيبته . وهو ضعيف، وهو عند البيهقي في الشعب من جهة عباس الترقفي ، ثم من جهة همام بن منبه ، عن أبي هريرة قال: "الغيبة تخرق الصوم، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع أن يجيء غدا بصومه مرقعا فليفعل" . وقال عقبة : هذا موقوف، وسنده ضعيف، ( وقال مجاهد : كفارة أكل لحم أخيك أن تثني عليه، وتدعو له بخير ) رواه ابن أبي الدنيا عن أبي كريب ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن أبي زائدة ، حدثنا محمد بن عبد الله الليثي ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، فذكره، قال: وحدثني محمد بن إدريس ، حدثنا داود بن معاذ، ابن أخت مخلد بن حسين عن شيخ له، عن أبي حازم قال: من اغتاب أخاه فليستغفر له، فإن ذلك كفارة لذلك .

وروى البيهقي في الشعب عن ابن المبارك قال: "إذا اغتاب رجل رجلا، فلا يخبره، ولكن يستغفر" . وعن محبوب بن موسى قال: سألت علي بن بكار عن رجل اغتبته، ثم ندمت، قال: لا تخبره فتغري قلبه، ولكن ادع له، وأثن عليه؛ حتى تمحو السيئة بالحسنة، ويؤيده قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن ، وحديث حذيفة : كان في لساني ذرب على أهلي لم يعدهم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أين أنت من الاستغفار يا حذيفة " ، الحديث رواه الحاكم وصححه، والبيهقي ، وبمجموع هذه يبعد الحكم عليه بالوضع .

(وسئل عطاء) بن أبي رباح، (عن التوبة من الغيبة ) كذا في نسخ الكتاب، وفي بعضها: من الفرية. وهو الموافق لما في كتاب الصمت، كما سيأتي، (فقال: تمشي إلى صاحبك، فتقول له: كذبت فيما قلت، وظلمتك وأسأت، فإن شئت أخذت بحقك، وإن شئت وهبت) ، رواه ابن أبي الدنيا عن محمد بن إدريس ، حدثنا أبو النضر الدمشقي ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن أبي شيبة يحيى بن يزيد الرهاوي ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن التوبة من الفرية قال: أن تمشي.. فذكره، إلا أنه قال في آخره: "وإن شئت عفوت"، بدل: "وهبت" .

قال المصنف: (وهذا هو الحق) ، قلت: هذا مبني على أنه لا فرق عنده بين الغيبة والفرية، وهو بعيد بلا مرية، والأحسن في هذا المقام التفصيل، وهو ألا يحتاج إلى الاستحلال إذا لم يصل الكلام إلى المغتاب منه بخلاف ما إذا وصله، إلا إذا كان يتشوش بذكره، فقد يكون الاعتذار أكبر من الذنب عند بعض الأبرار، وأما قول عطاء ؛ فإنه خص بالافتراء، بل ينبغي أن يعترف بالخطإ في حضور الملإ بالخلاء، وبالملإ، فتأمل .




الخدمات العلمية