الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآثار روي أن رجلا نال من أبي الدرداء وأراه سوءا ، فقال : اللهم من فعل بي سوءا فأصح جسمه ، وأطل عمره ، وأكثر ماله فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم ، وطول العمر ; لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهما على كفه ، ثم قال : أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت : ما هذا ? قالوا أرسل إليك عمر بن الخطاب قالت : غفر الله له ثم حلت سترا كان لها ، فقطعته ، وجعلته صررا وقسمته ، في أهل بيتها ورحمها ، وأيتامها ثم رفعت يديها ، وقالت : اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا ، فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقا به وقال الحسن والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله وقيل : إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعهما إبليس ، ثم وضعهما على جبهته ، ثم قبلهما ، وقال : من أحبكما ، فهو عبدي حقا وقال سميط بن عجلان إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار وقال يحيى بن معاذ الدرهم عقرب ، فإن لم تحسن رقيته ، فلا تأخذه ، فإنه إن لدغك قتلك سمه . قيل : وما رقيته ، قال : أخذه من حله ، ووضعه في حقه وقال العلاء بن زياد تمثلت لي الدنيا ، وعليها من كل زينة ، فقلت : أعوذ بالله من شرك فقالت : إن سرك أن يعيذك الله مني فأبغض الدرهم والدينار وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها ; إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها ، فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا وفي ذلك ; قيل .


إني وجدت فلا تظنوا غيره أن التورع عند هذا الدرهم     فإذا قدرت عليه ثم تركته
فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم

وفي ذلك قيل أيضا .


لا يغرنك من المر     قميص رقعه
أو إزار فوق عظم الساق     منه رفعه أو جبين لاح فيه
أثر قد خلعه     أره الدرهم تعرف حبه أو ورعه

ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته ، فقال : يا أمير المؤمنين ، صنعت صنيعا لم يصنعه أحد قبلك ، تركت ولدك ليس لهم درهم ولا دينار ، وكان له ثلاثة عشر من الولد فقال عمر : أقعدوني ، فأقعدوه ، فقال : أما قولك : لم أدع لهم دينارا ولا درهما ، فإني لم أمنعهم حقا لهم ، ولم أعطهم حقا لغيرهم ، وإنما ولدي أحد رجلين : إما مطيع لله ، فالله كافيه ، والله يتولى الصالحين ، وإما عاص لله ، فلا أبالي على ما وقع وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالا كثيرا ، فقيل له : لو ادخرته لولدك من بعدك ? قال لا : ولكني أدخره لنفسي عند ربي ، وأدخر ربي لولدي ويروى أن رجلا قال لأبي عبد ربه يا أخي ، لا تذهب بشر ، وتترك أولادك بخير فأخرج ، أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم .

وقال يحيى بن معاذ مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته قيل : وما هما ? قال : يؤخذ منه كله ويسئل ، عنه كله .

التالي السابق


(الآثار) الواردة في ذم المال (وروي أن رجلا نال من أبي الدرداء) - رضي الله عنه - (وأراه سوءا، فقال: اللهم من فعل بي سوءا فأصح جسمه، وأطل عمره، وأكثر ماله) نقله صاحب القوت .

(فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم، وطول العمر; لأنه ولا بد أن يفضي إلى الطغيان) ، أي: التجاوز عن الحدود .

(ووضع علي - رضي الله عنه - درهما على كفه، ثم قال: أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني) نقله صاحب القوت (وروي أن عمر - رضي الله عنه - أرسل إلى زينب بنت جحش) الأسدية أم المؤمنين - رضي الله عنها - (بعطائها) ، وهو قسمها من مال البحرين، قال عبيد الله بن أبي رافع راوي الأثر: (فقالت: ما هذا؟ قالوا) يعني الرسول، ومن عندها: (أرسل به إليك عمر بن الخطاب) من عطائك (قالت: غفر الله له) لقد كان عنده أقوى على قسمة هذا مني، قال الرسول: هذا كله لك، وكان آلافا كثيرة، فقالت: سبحان الله ضعه واطرحوا عليه ثوبا (ثم حلت سترا كان لها، فقطعته، وجعلته صررا، وقسمتها في أهل رحمها، وأيتامها) .

وفي رواية، ثم قالت للراوي: أدخل يدك فاقبض منه قبضة اذهبوا بها إلى بني فلان، ثم جعلت تقبض من تحت الثوب ترسله إلى الأيتام والمساكين حتى أنفذته (ثم رفعت يديها، وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقا به) صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهن بذلك، وهن مجتمعات عنده، فقال: أسرعكن لحاقا بي أطولكن باعا.

كما رواه مسلم، والنسائي، وابن حبان من حديث عائشة، فلم يكن بينهن أجود بالعطاء وأسخى بالمال من زينب فأسرعت به لحاقا، وهذه القصة أخرجها ابن سعد في الطبقات بسند فيه الواقدي، عن محمد بن كعب، قال: كان عطاء زينب بنت جحش اثني عشر ألفا لم تأخذه إلا عاما واحدا، فجعلت تقول: اللهم لا يدركني هذا المال قابل، فإنه فتنة، ثم قسمته في أهل رحمها في أهل الحاجة فبلغ عمر، فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف عليها، وأرسل السلام، وقال: بلغني ما فرقت، فأرسل ألف درهم، فسلكت به ذلك المسلك.

وفي الصحيحين: وكانت زينب امرأة صناع اليدين، فكانت ترقع، وتخرز، وتصدق في سبيل الله .

قال صاحب القوت: وكانت بعدها عائشة - رضي الله عنها - في الجود، والسخاء.

روى هشام بن عروة، عن أبيه أن معاوية بعث إلى عائشة مرة بمائة ألف، قال: فوالله ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فرقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحما؟ فقالت: لو قلت لي قبل أن أفرقها فعلت.

(وقال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى -: (والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله) ، ولفظ القوت: وقال الحسن: ما أعز أحد نفسه إلا أهان دينه، وحلف بالله ما أعز أحد الدينار والدرهم إلا أذل دينه .

[ ص: 148 ] وقال مرة: إلا أذله الله، ومرة: يجعل ذلك بعض العقلاء في النفس، فيقول: من أراد أن يعز نفسه، فليذل درهمه، وما أعز أحد درهمه إلا أهان نفسه .

(وقيل: إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعهما إبليس، ثم وضعهما على جبهته، ثم قبلهما، وقال: من أحبكما، فهو عبدي حقا) .

أخرجه صاحب الحلية عن وهب بن منبه.

(وقال سميط بن عجلان) الشيباني البصري، وسميط يروى بالشين المعجمة، والمهملة، وهو أخو الأخطر بن عجلان: (إن الدنانير والدراهم أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار) ، أي: بمنزلة الأزمة التي تقاد بها الدواب .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى - (الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته، فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه .

قيل: وما رقيته، قال: أخذه من حله، ووضعه في حقه) نقله صاحب القوت .

(وقال العلاء بن زياد) البصري - تقدم ذكره في الكتاب الذي قبله -: (تمثلت إلي الدنيا) بصورة (امرأة، وعليها من كل زينة، فقلت: أعوذ بالله من شرك، قالت: إن كنت تريد أن يعيذك الله مني فأبغض الدرهم) .

أخرجه صاحب الحلية، وقد تقدم في الكتاب الذي قبله (وذلك لأن الدرهم والدينار هي الدنيا كلها; إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها، فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا; ولذلك قيل) :


(إني وجدت فلا تظنوا غيره إن التورع عند هذا الدرهم)


(فإذا قدرت عليه ثم تركته فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم)

(وقيل أيضا) :


(لا يغرنك من المر ء قميص رقعه
أو إزار فوق عظم الس اق منه رفعه)


(أو جبين لاح فيه أثر قد خلعه
أره الدرهم فانظر غيه أو ورعه)

هكذا أوردها صاحب القوت، وتقدم للمصنف أيضا في كتاب آداب السماع (ويروى عن مسلمة بن عبد الملك) بن مروان كان عالما في علم الحدثان، وزعم أنه أخذه عن خالد بن يزيد بن معاوية، وهو الذي بشر عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بملك الأندلس، وغزا مسلمة إلى القسطنطينية سنة ثمان وتسعين في البر، وعمر بن هبيرة في البحر، فجازا جميعا الخليج وافتتحا مدينة العقالبة، ثم عادا إلى القسطنطينية، ثم دخلها، وأقام المسلمون بعرصتها، وبنوا، وزرعوا، وأكلوا من زراعتهم (أنه دخل على عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - عند موته، فقال: يا أمير المؤمنين، صنعت صنيعا لم يصنعه أحد قبلك، تركت ولدك ليس لهم دينار، ولا درهم، وكان عنده ثلاثة عشر من الولد) الذكور، وخمس من الإناث، وقيل: أربعة عشر، والصحيح اثنا عشر ذكورا، وست بنات - كما سيأتي -، منهم إبراهيم، وعبد الله، وحفص، وعبد العزيز، وأما عبد الملك، وسهل، فإنهما ماتا قبله (فقال عمر: أقعدوني، فأقعدوه، فقال: أما قولك: لم أدع لهم دينارا ولا درهما، فإني لم أمنعهم حقا لهم، ولم أعطهم حقا لغيرهم، وإنما ولدي أحد رجلين: إما مطيع لله، فالله كافيه، والله يتولى الصالحين، وإما عاص لله، فلا أبالي على ما وقع) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني أبو إسحاق، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا هاشم، قال: لما كانت الصرعة التي هلك فيها عمر دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أقفرت أفواه ولدك من هذا المال، فتركتهم على لا شيء لهم، ولو أوصيت لهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك؟ قال: فقال: أسندوني، ثم قال: أما قولك: إني أقفرت أفواه ولدي من هذا المال، فإني والله ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك: لو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك ؟ فإن وصيي ووليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين; بني أحد رجلين: إما رجل يتقي الله، فسيجعل الله له مخرجا، وإما رجل يمكث على المعاصي، فإني لم أكن لأقويه على معصية، ثم بعث إليهم، وهم بضعة عشر ذكرا، قال: فنظر إليهم، فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم على لا شيء لهم، بل الحمد لله تركتهم على خير، أي بني: إنكم لن تلقوا أحدا من العرب، ولا من المعاهدين إلا إن لكم عليهم حقا، يا بني، إن أباكم سئل بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، وأن تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، قوموا عصمكم الله .

وبالسند المذكور [ ص: 149 ] إلى أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا سهل بن محمود، حدثنا عمر بن حفص المعيطي، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: قلت: كم ترك لكم عمر من المال؟ فتبسم، وقال: حدثني مولى لنا كان يلي نفقته، قال لي عمر حين احتضر: كم عندك من المال؟ قال: قلت: أربعة عشر دينارا، قال: فقال: تحتملون بها من منزل إلى منزل، فقلت: كم ترك لكم من الغلة؟ قال: ترك لنا غلة ستمائة دينار، ورثناها عنه، وثلاثمائة دينار ورثناها عن أخينا عبد الملك، وتركنا اثني عشر ذكرا، وست نسوة، واقتسمنا ماله على خمس عشرة (وروي أن محمد بن كعب القرظي) التابعي المدني الثقة (أصاب مالا كثيرا، فقيل له: لو ادخرته لولدك من بعدك؟ قال: ولكني أدخره لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية (ويروى أن رجلا قال لأبي عبد رب) الدمشقي الزاهد، ويقال: أبو عبد ربه، ويقال: أبو عبد رب العزة مولى ابن غيلان الثقفي، ويقال: مولى بني عذرة، وقيل: اسمه عبد الجبار، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: قسطنطين روى عن معاوية، وعنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، روى له ابن ماجه: (يا أخي، لا تذهب بشر، وتترك أولادك بخير، فخرج أبو عبد رب من ماله مائة ألف درهم) .

رواه أبو نعيم في الحلية من طريق سعيد بن عبد العزيز بلفظ: خرج من عشرة آلاف دينار، أو من مائة ألف .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى -: (مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله) نقله صاحب القوت .

وكان عون بن عبد الله المسعودي أوصى بضيعة له تباع بعد موته، ويتصدق بها، فقيل له: تدع عيالك؟ فقال: أقدم هذا لنفسي، وأدخر الله لعيالي، وجاءته مرة خمسون ألفا، فقيل له: اعتقدها لولدك، قال: أعتقدها لنفسي، وأعتقد الله لولدي .




الخدمات العلمية