الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما على كفه ، ووضع إصبعه عليه، وقال : يقول الله تعالى: ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق وأنى أوان الصدقة .

وقال صلى الله عليه وسلم : إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط الله بعضهم على بعض .

قال ابن الأعرابي هي مشية فيها اختيال وقال صلى الله عليه وسلم: من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان .

(الآثار) : عن أبي بكر الهذلي قال : بينما نحن مع الحسن إذ مر علينا ابن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز ، قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة ، فقال : أف أف ! شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة ، غير المأخوذ بأمر الله فيها ، ولا المؤدي حق الله منها ، والله أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلق المجنون في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لفتة . فسمع ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه فقال لا تعتذر إلي ، وتب إلى ربك ، أما سمعت قول الله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ومر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال له : ابن آدم ، معجب بشبابه ، محب لشمائله ، كأن القبر قد وارى بدنك ، وكأنك قد لاقيت عملك ، ويحك ! داو قلبك ؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم .

وروي أن عمر بن عبد العزيز حج قبل أن يستخلف فنظر إليه طاوس وهو يختال في مشيته ، فغمز جنبه بأصبعه ، ثم قال : ليست هذه مشية من في بطنه خراء فقال عمر كالمعتذر يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها ورأى محمد بن واسع ولده يختال ، فدعاه وقال : أتدري من أنت ، أما أمك فأشتريها بمائتي درهم ، وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله ورأى ابن عمر رجلا يجر إزاره فقال أن : للشيطان إخوانا ، كررها مرتين أو ثلاثا ويروى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز ، فقال : يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله ، فقال له المهلب : أما تعرفني ؟! فقال بلى : أعرفك ، أولك نطفة مذرة وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته تلك .

وقال مجاهد في قوله تعالى : ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي : يتبختر .

التالي السابق


(وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بزق يوما على كفه، ووضع إصبعه عليه، وقال: يقول الله تعالى: ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه) يعني النطفة (حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين) أي: معجبا بنفسك (وللأرض منك وئيد) أي: وطء ثقيل، ومنه قول الزباء:


ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا تحملن أم حديدا؟!

(جمعت) الأموال (ومنعت) الحقوق (حتى إذا بلغت) الروح (التراقي) جمع ترقوة، وهي عظام العنق (قلت: أتصدق وأنى أوان الصدقة) .

قال العراقي: رواه ابن ماجه، والحاكم وصحح إسناده، من حديث بسر بن حجاش. انتهى .

قلت: ورواه أيضا أحمد، وابن سعد، وابن أبي عاصم، والباوردي، وابن قانع، وسمويه، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، والضياء، ولفظهم جميعا: "يقول الله: يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا" والباقي سواء، وبسر بضم فسين مهملة، وأهل الشام يقولون: بشر، وهو صاحبي، عبدري، قرشي، وإسناد أحمد وابن ماجه صحيح .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا مشت أمتي المطيطاء) بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهما مثناة تحتية، مصغر، يمد ويقصر، أي: تبختروا في مشيتهم عجبا واستكبارا (وخدمتهم فارس والروم) أي: فتحت بلادهم فأسرت منها الذكور والإناث (سلط الله بعضهم على بعض) قال العراقي: رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر. انتهى .

قلت: سياق المصنف رواه الطبراني من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن .

وأما لفظ الترمذي: "إذا مشت أمتي المطيطا وخدمها أبناء الملوك، أبناء فارس والروم، سلط الله شرارها على خيارها" وقال: غريب، وفيه زيد بن الحباب، وموسى بن عبيد، قد ضعفا .

وهذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم- فإنهم لما فتحوا بلاد فارس والروم، وأخذوا ما لهم، واستخدموا أولادهم، سلط عليهم قتلة عثمان، فقتلوا عثمان، ثم سلط بني أمية على بني هاشم، ففعلوا ما فعلوا .

قال الميداني والعسكري: لم تعرف الجاهلية اللواط قبل الإسلام، وإنما حدث في صدره حين كثر الغزو، وطالت غيبتهم عن نسائهم، وسبوا أبناء فارس والروم، واستخدموهم، وطالت خلوتهم بهم، فرأوهم يجزؤون عن النساء في الجملة، ففعلوه .

(قال ابن الأعرابي) أحد أئمة اللغة (هي) أي: المطيطا (مشية فيها اختيال) هكذا رواه عنه غير واحد من الأئمة، وقال الزمخشري: ممدودة مقصورة بمعنى التمطي، وهو التبختر، ومد اليدين، وأصل التمطي التمطط، تفعل من المط وهو المد، وهي [ ص: 349 ] من المصغرات التي لم يستعمل لها مكبر ككميت. انتهى .

وقال عياض: هي مشية فيها تبختر، ومد يدين، من مطه إذا مده، وكذا التمطي، وهو من المصغرات، ولم يستعمل لها مكبر كالمريطا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من تعظم في نفسه) أي: تكبر وتجبر (واختال في مشيته) أي: تبختر وأعجب بنفسه (لقي الله وهو عليه غضبان) فإن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه .

قال العراقي: رواه أحمد والطبراني والحاكم، وصححه البيهقي في الشعب من حديث ابن عمر. انتهى .

قلت: كذلك رواه البخاري في الأدب المفرد، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح .

(الآثار: عن أبي بكر) سلمى بن عبد الله بن سلمى (الهذلي) البصري، وهو ابن بنت ابن عبد الرحمن الحميري، روى عن قتادة بن دعامة، وعنه إسماعيل بن عياش، قال الحافظ في التهذيب: إخباري، متروك الحديث، مات سنة سبع وستين، روى له ابن ماجه (قال: بينما نحن مع الحسن) يعني البصري (إذ مر علينا ابن الأهتم) إذا أطلق يصرف إلى عمرو بن الأهتم بن سمي بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس التميمي المنقري، كان خطيبا جميلا بليغا شاعرا، شريفا في قومه، له صحبة، وهو الذي يخاطب الزبرقان بن بدر بقوله:


طلبت مفترش الهلباء تشتمني عند النبي فلم تصدق ولم تصب

ولكن يبعد خطاب الحسن البصري الآتي ذكره، وهو أصغر سنا وقدرا مع مثله، وهو صحابي أكبر منه سنا وقدرا، فالظاهر أن المراد به أحد بني إخوته، إما شيبة بن سعد بن الأهتم، وإما المدمل بن خاقان بن الأهتم، وإما خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم، وكلهم من البلغاء المشهورين، فليحرر ذلك .

(يريد المقصورة) وهو الموضع الذي جعل شبه القصر على يمين المحراب، أحدثها بنو أمية (وعليه جباب خز، قد نضض بعضها فوق بعض على ساقه) أي: رتبها واحدا فوق واحد (فانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر) أي: يميل يمينا وشمالا (إذ نظر إليه الحسن نظرة، فقال: أف أف! شامخ بأنفه) وهو كناية عن المتكبر، يقال: شمخ بأنفه إذا تكبر (مصعر خده) يقال: صعر خده بالتشديد وصاعره أماله عن الناس إعراضا وتكبرا (ينظر في عطفيه) أي: جانبيه، والجمع أعطاف (أي حميق) أي: يا أحمق، وهو مصغر أحمق بتشديد التحتية المكسورة (أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدى حق الله منها، والله أن يمشي أحدكم طبيعته يتخلج تخلج المجنون) أي: يضطرب اضطرابه (في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان فيه لعقة .

فسمع ابن الأهتم) هذا الكلام (فرجع يعتذر إليه فقال) الحسن: (لا تعتذر إلي، وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) أخرجه أبو نعيم في الحيلة .

(ومر بالحسن) البصري -رحمه الله تعالى- (شاب عليه بزة حسنة) البزة بالكسر الهيئة (فدعاه فقال: ابن آدم، معجب بشبابه، محب لشمائله، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لاقيت عملك، ويحك! داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وروي أن عمر بن عبد العزيز) بن عبد الملك بن مروان الأموي -رحمه الله تعالى- (حج قبل أن يستخلف) وذلك في زمن عمه ابن سليمان ابن عبد الملك (فنظر إليه طاوس) اليماني -رحمه الله تعالى- (وهو يختال في مشيته، فغمز جنبه بإصبعه، ثم قال: ليست هذه مشية من في بطنه خرء) وفي بعض النسخ: "من في قلبه خير" (فقال عمر كالمنذر) له: (يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمها) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(ورأى محمد بن واسع) البصري -رحمه الله تعالى- (ولده يختال، فدعاه، فقال: أتدري من أنت، أما أمك فاشتريتها بمائتي درهم، وأما أبوك فلا أكثر الله في الإسلام) وفي نسخة: في المسلمين (مثله) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن محمد بن شيبان، حدثنا أبو العباس السراج، حدثنا أبو العباس بن أبي طالب، حدثنا عبد الله بن عيسى الطفاوي، حدثنا محمد بن عبد الله الزراد أبو يحيى قال: "نظر محمد بن واسع إلى ابن له يخطر بيده، فقال له: ويحك! تدري ابن من أنت؟ [ ص: 350 ] أمك اشتريتها بمائتي درهم، وأبوك فلا كثر الله في المسلمين ضربه أو نحوه" .

وأخرج أيضا من طريق الأصمعي قال: "آذى ابن لمحمد بن واسع رجلا، فقال له محمد: أتؤذيه وأنا أبوك، وإنما اشتريت أمك بمائة درهم" .

(ورأى ابن عمر) رضي الله عنه (رجلا يجر إزاره) أي: اختيالا (فقال: إن للشيطان إخوانا، كررها مرتين أو ثلاثا) وإنما قيدناه بكونه اختيالا؛ لأن من جره من غير هذا القصد فإنه لا يحرم عليه، كما تقدمت الإشارة إليه، وبوب البخاري في صحيحه: باب من جر إزاره من غير خيلاء، وأورد فيه حديث أبي بكر لما قال: "يا رسول الله إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنك لست تصنع ذلك خيلاء" وحديث أبي بكر: "خسفت الشمس ونحن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام يجر ثوبه مستعجلا حتى أتى المسجد" الحديث .

(ويروى أن مطرف بن عبد الله) بن الشخير الحرشي البصري التابعي العابد الثقة (رأى المهلب) بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي العتكي (وهو يتبختر في جبة خز، فقال: يا عبد الله) سماه بأعم أسمائه؛ إذ كل الناس عبيد الله عز وجل (هذه مشية يبغضها الله -عز وجل- ورسوله، فقال له المهلب: أما تعرفني؟! فقال: بل أعرفك، أولك نطفة مذرة) أي: متغيرة (وآخرك جيفة قذرة) أي: نتنة (وأنت بين ذلك تحمل العذرة) بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة، الخرء، ولا يعرف تخفيفها (فمضى المهلب وترك مشيته) هكذا في نسخ الكتاب من رواية مطرف بن عبد الله.

وأخرجه أبو نعيم في الحيلة في ترجمة مالك بن دينار، فقال: حدثنا الحسن بن علي بن الخطاب الوراق، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا إبراهيم بن العباس الكاتب، حدثنا الأصمعي قال: "مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، فقال له مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين، فقال له المهلب: أما تعرفني، فقال مالك: أعرفك أحسن المعرفة، فقال: وما يعرفك مني؟! قال: أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة، قال: فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة" .

وأخرج من طريق سلام بن مسكين، عن مالك بن دينار "أنه لقي بلال بن أبي بردة والناس يطوفون حوله، فقال له: أما تعرفني؟! قال: بلى أعرفك، أولك نطفة، وأوسطك جيفة، وأسفلك دودة، قال: فهموا به أن يضربوه، فقال لهم: أنا مالك بن دينار، فركب ومضى .

(وقال مجاهد) رحمه الله تعالى (في قوله تعالى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي: يتبختر) أصله يتمطط، وهو تفعل من المط، وهو المد، وأصله أن يمد يديه في حالة المشي .




الخدمات العلمية