الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات ،

الدرجة : الأولى : أن يكون الكبر مستقرا في قلبه ، يرى نفسه خيرا من غيره ، إلا أنه يجتهد ويتواضع ، ويفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه ، وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ، ولكنه قطع أغصانها بالكلية .

الثانية : أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس ، والتقدم على الأقران ، وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس ، كأنه معرض عنهم ، وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر ، لهم ، أو غضبان عليهم ، وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ، ولا في الوجه حتى يعبس ، ولا في الخد حتى يصعر ، ولا في الرقبة حتى تطأطأ ، ولا في الذيل حتى يضم ، إنما الورع في القلوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « التقوى هاهنا وأشار إلى صدره » ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقا، وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا؛ ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبني من القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين مثله .

ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم أخف حالا ممن هو في .

الرتبة الثالثة وهو الذي يظهر الكبر على لسانه ، حتى يدعوه إلى الدعوى ، والمفاخرة ، والمباهاة ، وتزكية النفس وحكايات ، الأحوال والمقامات ، والتشمر لغلبة الغير في العلم والعمل .

أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد :

من هو ، وما عمله ، ومن أين زهده ، فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول : إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم ، وفلان ينام سحرا ، ولا يكثر القراءة ، وما يجري مجراه . وقد يزكي نفسه ضمنا فيقول : قصدني فلان بسوء فهلك ولده ، وأخذ ماله ، أو مرض ، أو ما يجره مجراه ، يدعي الكرامة لنفسه .

وأما مباهاته : فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم وكذلك يشتد في العبادة خوفا من أن يقال : غيره أعبد منه ، أو أقوى منه في دين الله .

وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول : أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ، ورأيت من الشيوخ فلانا وفلانا ، ومن أنت ? وما فضلك ? ومن لقيت وما الذي سمعت من الحديث ? كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه .

وأما مباهاته : فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ، ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع ، الألفاظ ، وحفظ العلوم الغريبة ؛ ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها ؛ حتى يرد على من أخطأ فيها ، فيظهر فضله ونقصان أقرانه ، ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد ؛ عليه ويسوء ، إذا أصاب وأحسن ؛ خيفة من أن يرى أنه أعظم منه .

فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل ، وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه ؟! فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه ، وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر » . .

كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار ؟! وإنما العظيم من خلا عن هذا ، ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر ، والعالم هو الذي فهم إن الله تعالى قال له : إن لك عندنا قدرا ما لم تر لنفسك قدرا ، فإن رأيت لها قدرا فلا قدر لك عندنا .

ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ، ولا يرى لنفسه قدرا .

فهذا هو التكبر بالعلم والعمل .

التالي السابق


(لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات:

الأولى: أن يكون الكبر مستقرا في قلبه، يرى نفسه خيرا من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع، ويفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه، وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر، ولكنه قطع أغصانها بالكلية) ولم يدعها تتفرع .

(الثانية: أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه) أو يتأخر في قضاء حوائجه (وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس، كأنه معرض عنهم، وفي العابد أن يعبس في وجهه ويقطب عينيه) يقال: قطب بين عينيه، من حد ضرب، إذا جمع بينهما (كأنه تنزه عن الناس، مستقذرا لهم، أو غضبان عليهم، وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب، ولا في الوجه حتى يعبس، ولا في الخد حتى يصعر، ولا في الرقبة حتى تطأطأ، ولا في الذيل حتى يضم، إنما الورع في القلوب) قال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه .

(قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى ههنا وأشار إلى صدره" رواه مسلم من حديث أبي هريرة) وقد تقدم .

وعند أبي يعلى: "التقوى ههنا، قاله ثلاثا، وأشار إلى قلبه".

(فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق ) على الله وأتقاهم (وكان) مع ذلك (أوسعهم خلقا، وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا) كل ذلك تقدم في كتاب أخلاق النبوة .

(ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا في سائر نسخ الكتاب، وهو خطأ، والصواب عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو الذي له صحبة، وتمام نسبه بعد جزء -بفتح الجيم وسكون الزاي- هو ابن عبد الله بن معدي كرب بن عمرو بن عصم بن عمرو بن عريج بن عمرو بن زبيد الزبيدي، حليف أبي وداعة السهمي، وابن أخي محمية بن جزء الزبيدي، قال البخاري: له صحبة، سكن مصر، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث حفظها عنه المصريون، ومن آخرهم يزيد بن أبي حبيب، قال ابن يونس: مات سنة ست وثمانين بعد أن عمي، وكانت وفاته بسفط القدور، قاله الطحاوي، وهو آخر من مات من الصحابة بمصر، وسفط القدور قرية بمصر من المنوفية، تعرف الآن بسفط عبد الله، وقد زرت مقامه بها مرارا، والعامة تزعم أنه عبد الله بن سلام وهو خطأ .

(ويعجبني من القراء) أي: العلماء (كل طليق) الوجه (مضحاك) أي: كثير الضحك (فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين مثله، ولو كان الله رضي ذلك لما قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) .

وقد أورد ابن يونس في تاريخ الصحابة الذين دخلوا مصر في ترجمة عبد الله بن الحارث أنه قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه من طريق ابن لهيعة، حدثنا عبيد الله بن المغيرة قال: سمعت عبد الله بن الحارث يقول، فساقه .

(وهؤلاء الذين يظهر التكبر على شمائلهم وأحوالهم أخف حالا ممن هو في:

الرتبة الثالثة: وهو الذي يظهر التكبر على لسانه، حتى يدعوه إلى الدعوى، والمفاخرة، والمباهاة، وتزكية النفس، وحكاية الأحوال والمقامات، والتشمر لغلبة الغير في العلم والعمل .

أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد: من هو، وما عمله، ومن أين زهده، فيطول اللسان فيهم بالتنقيص) والتقصير (ثم يثني على نفسه ويقول: إني لم أفطر منذ كذا وكذا) مدة (ولا أنام الليل) إلا القليل (وأختم القرآن في كل يوم، وفلان ينام سحرا، ولا يكثر القراءة، وما يجري مجراه .

وقد يزكي [ ص: 374 ] نفسه ضمنا فيقول: قصدني فلان بسوء فهلك ولده، وأخذ ماله، أو مرض، أو ما يجري مجراه، يدعي الكرامة لنفسه .

وأما مباهاته: فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي) حين يكون في منزله (وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر لهم قوته) على الجوع (وعجزهم) عنه (وكذلك يشتد في العبادة) كل ذلك (خوفا من أن يقال: غيره أعبد منه، أو أقوى منه في دين الله. وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول: أنا متفنن في العلوم) أي: صاحب فنون (ومطلع على الحقائق، ورأيت من الشيوخ فلانا وفلانا، ومن أنت؟ وما فضلك؟ ومن لقيت) من الشيوخ؟ (وما الذي سمعت من الحديث؟ كل ذلك ليصغره وليعظم نفسه .

وأما مباهاته: فهو أن يجتهد في المناظرة أن يغلب) مناظره (ولا يغلب، ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل) والمنطق وآداب البحث والنحو (وتحسين العبادة، وتصحيح الألفاظ، وحفظ العلوم الغريبة؛ ليغرب بها على الأقران ويتعظم) عليهم، ويشار إليه بالأصابع (ويحفظ الأحاديث وألفاظها وأسانيدها؛ حتى يرد على من أخطأ فيها، فيظهر فضله ونقصان أقرانه، ويفرح مهما أخطأ واحد منهم؛ ليرده عليه، ويسوءه) أي: يغمه (إذا أصاب) في سياقته (وأحسن؛ خيفة من أن يرى أنه أعظم منه .

فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل، وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه؟! فليت شعري من عرف هذه الأخلاق من نفسه، وسمع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر") .

رواه القشيري في الرسالة، عن علي بن أحمد الأهوازي، حدثنا أحمد بن عبيد البصري، حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أبو الحسن علي بن زيد الفرائصي، حدثنا محمد بن كثير، وهو المصيصي، عن هارون بن حيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره، وقد تقدم .

(كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره، و) هو بقول (رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل النار؟! وإنما العظيم) القدر عند الله (من خلا عن هذا، ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر، والعالم هو الذي فهم أن الله تعالى قال له: إن لك عندنا قدرا) أي: مقاما (ما لم تر لنفسك قدرا، فإن رأيت لها قدرا) ومنزلة (فلا قدر لك عندنا، ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم عليه كذب) وزور (ومن علمه لزمه أن لا يتكبر، ولا يرى لنفسه قدرا. فهذا هو الكبر بالعلم والعمل) .




الخدمات العلمية