الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان كيفية توزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا .

اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة والآخرة من عالم الغيب والملكوت وأعني بالدنيا حالتك قبل الموت وبالآخرة حالتك بعد الموت في ، دنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك ، يسمى القريب الداني منها دنيا والمتأخر آخرة ، ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة ، فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو ، عالم الملك وغرضنا شرح الآخرة ، وهي عالم الملكوت ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ولذلك قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا » وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا بضرب الأمثال المحوجة إلى التعبير فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال وأعني بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ويكفيك منه إن كنت فطنا ثلاثة أمثلة .

فقد جاء رجل إلى ابن سيرين فقال رأيتك كأن : في يدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء ، فقال : إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر قال : صدقت وجاء ، رجل آخر فقال : رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون فقال : إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن ; أمك ، سبيت في صغرك لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد إلى الأصل ، فنظر فإذا جاريته كانت أمه ، وقد سبيت في صغره ، وقال له آخر : رأيت كأني أقلد الدر في أعناق الخنازير فقال : إنك تعلم الحكمة غير أهلها ، فكان كما قال .

التالي السابق


(فصل في بيان توزيع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا)

فيهما لف ونشر مرتب، والدرج والدرك بمعنى واحد، لكن باعتبارين مختلفين، فالدرج اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالهبوط; ولذلك قيل: درجات الجنة ودركات النار .

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن الدنيا من عالم الملك والشهادة) من المحسوسات الطبيعية، (والآخرة من عالم الغيب والملكوت) المختص بأرواح النفوس، (وأعني بالدنيا [ ص: 548 ] حالتك قبل الموت وبالآخرة حالتك بعد الموت، فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك، يسمى القريب الداني منها دنيا) فعلى من الدنو (والمتأخر) منها (آخرة، ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة، فإنا الآن نتكلم في الدنيا، وهي عالم الملك) والشهادة، (وغرضنا شرح الآخرة، وهي عالم الملكوت) والغيب، (ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك) ، ولا يتضح (إلا بضرب الأمثال) ; لأنه أقرب إلى الوصول للأفهام; (ولذلك قال الله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) أي: المتبصرون، واستنبط أن من ليس بعالم لا يعقل الأحكام الإلهية من ضرب الأمثال، (وهذا لأن عالم الملك نوم) أي: بمنزلته (بالإضافة إلى عالم الملكوت; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا") قال العراقي: لم أجده مرفوعا، وإنما يعزى إلى علي بن أبي طالب اهـ .

قلت: وهكذا أورده الشريف الموسوي في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين، وذكره أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري، رواه من طريق المعافى بن عمران عنه، (وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا بضرب الأمثال المحوجة إلى التعبير) أي: إلقائه في عبارة، (فكذلك ما يكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا بكثرة الأمثال) أي: صورتها، (وأعني بكثرة الأمثال ما تعرفه من علم التعبير ويكفيك فيه) ، وفي نسخة: منه (إن كنت فطنا) حاذقا (ثلاثة أمثلة; فقد جاء رجل إلى) أبي بكر محمد (بن سيرين) التابعي البصري الثقة رأس المعبرين رحمه الله تعالى، وكان يضاهي الحسن في عمله وورعه، وفيه القول المشهور الذي يستدل به على " أو " للتخيير، جالس الحسن أو ابن سيرين (فقال: رأيت كأني في يدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء، فقال له: إنك مؤذن تؤذن في شهر رمضان قبل طلوع الفجر فقال: صدقت، وجاءه رجل آخر فقال: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون فقال: إن كان تحتك جارية ففتش عن حالها; فإنها أمك، سبيت في صغرك لأن الزيتون أصل الزيت فهو رد إلى الأصل، فنظر الرجل فإذا جاريته كانت أمه، وقد سبيت في صغر، وقال له آخر: رأيت كأني أقلد الدر في أعناق الخنازير فقال: إنك تعلم الحكمة غير أهلها، فكان كما قال) ، والأخير أخذه من قول عيسى عليه السلام: معلم الحكمة غير أهلها كمقلد الدر في أعناق الخنازير .

ومن غرائب تعبيرات ابن سيرين ما رواه أبو نعيم في الحلية من طريق خالد بن دينار قال: كنت عند ابن سيرين فأتاه رجل فقال: يا أبا بكر رأيت في المنام كأني أشرب من بلبلة لها ثقبان فوجدت أحدهما عذبا، والآخر ملحا قال: اتق الله، لك امرأة، وأنت تخالف إلى أختها.

ومن طريق أبي قلابة أن رجلا قال لأبي بكر: رأيت كأني أبول دما، قال: تأتي امرأتك، وهي حائض؟ قال: نعم، قال: اتق الله، ولا تعد.

ومن طريق أبي جعفر أن رجلا رأى في المنام كأن في حجره صبيا يصيح فقص رؤياه فقال له: اتق الله، ولا تضرب بالعود .

ومن طريق حبيب المعلم أن امرأة رأت في المنام أنها تجلب حية فقصت على ابن سيرين فقال: اللبن فطرة، والحية عدو، وليست من الفطرة في شيء، هذه امرأة تدخل عليها أهل الأهواء.

ومن طريق الحارث بن ثقيف قال: قال رجل لابن سيرين: إني رأيت كأني ألعق عسلا من جام من جوهر. فقال: اتق الله، وعاود القرآن فقد كنت تحفظه، ثم نسيته.

قال: وقال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أحرث أرضا لا تنبت. قال: أنت رجل تعزل عن امرأتك.

ومن طريق مبارك بن يزيد البصري قال: قلت لابن سيرين رأيت في المنام كأني أغسل ثوبي، وهو لا ينقى. قال: أنت رجل مصارع لأخيك.

قال: وقال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أطير بين السماء والأرض: قال: أنت رجل تكثر التمني.

ومن طريق هشام بن حسان قال: جاء رجال إلى ابن سيرين، وأنا عنده فقال: إني رأيت كأن على رأسي تاجا من ذهب. قال: فقال له ابن سيرين: اتق الله، فإن أباك في أرض غربة، وقد ذهب بصره، وهو يريد أن تأتيه. قال: فما زاده الرجل الكلام حتى أدخل يده في محزمه فأخرج كتابا من أبيه فيه ذهاب بصره، وأنه في أرض غربة، ويأمره بالإتيان إليه.




الخدمات العلمية