الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما الحكم على العين كالحكم مثلا بأن الصبيان منهم فهذا مظنون ، وليس بمستيقن ، والاطلاع عليه تحقيقا في عالم النبوة ويبعد أن ترتقي إليه رتبة الأولياء والعلماء والأخبار في حق الصبيان أيضا متعارضة حتى قالت عائشة رضي الله عنها : لما مات بعض الصبيان عصفور من عصافير الجنة ، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : وما يدريك فإذا الإشكال والاشتباه أغلب في هذا المقام .

التالي السابق


(وأما الحكم على العين) من الأعيان بالخصوص (كالحكم مثلا بأن الصبيان منهم فهذا مظنون، وليس بمستيقن، والاطلاع عليه يقينا) ، وفي نسخة: تحقيقا (في عالم النبوة) ; فإن الأنبياء عليهم السلام إنما يخبرون بوحي من الله تعالى، (ويبعد أن ترتقي إليه رتبة الأولياء والعلماء) لقصور رتبتهم في الانكشاف، (والأخبار) الواردة (في حق الصبيان أيضا متعارضة) كتعارضها في حق أصحاب الأعراف (حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لما مات بعض الصبيان) طوبى له (عصفور من عصافير الجنة، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: وما يدريك) أنه عصفور من عصافير الجنة. قال العراقي: رواه مسلم.

قلت: ولفظه: توفي صبي من الأنصار، فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوغير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم، وعند مسلم أيضا: إن الله خلق الجنة، وخلق النار فخلق لهذه أهلا، ولهذه أهلا.

وروى الطبراني في الأوسط والصغير، والخطيب من حديث أبي هريرة: "إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلا بعشائرهم وقبائلهم، لا يزاد فيهم ولا ينقص، وخلق النار وخلق لها أهلا بعشائرهم وقبائلهم، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له. وسنده ضعيف .

ولنذكر الأخبار المتعارضة في الصبيان; قال العراقي: روى الشيخان من حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: وفيه: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة"، قيل: يا رسول الله، أولاد المشركين قال: أولاد المشركين"، وللطبراني من حديثه سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال: هم خدم أهل الجنة، وفيه عباد بن منصور الناجي قاضى البصرة وهو ضعيف، يرويه عنه عيسى بن شعيب، وقد ضعفه ابن حبان.

وللنسائي من حديث الأسود بن سريع في غزاة لنا الحديث في قتل الذرية، وفيه: "ألا إن خياركم أبناء المشركين، ثم قال: لا تقتلوا ذرية، وكل نسمة تولد على الفطرة" الحديث، وإسناده صحيح، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة" الحديث، وفي رواية لأحمد: ليس مولود إلا يولد على هذه الملة، ولأبي داود في آخر الحديث، فقالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين.

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وللطبراني من حديث الحارث الأنصاري: كانت يهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد". الحديث، وفيه عبد [ ص: 567 ] الله بن لهيعة، ولأبي داود من حديث ابن مسعود: "الوائدة والموؤدة في النار"، وله من حديث عائشة: قلت: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ فقال: مع آبائهم. قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: وذراري المشركين؟ قال: مع آبائهم. قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. وللطبراني من حديث خديجة قلت: يا رسول الله أين أطفالي منك؟ قال: في الجنة. قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: وأين أطفالي قبلك؟ قال: في النار. قلت: بغير عمل؟ قال: لقد علم الله ما كانوا عاملين. وإسناده منقطع بين عبد الله بن الحارث وخديجة، وفي الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة في أولاد المشركين من آبائهم، وفي رواية: هم منهم ا هـ .

قلت: وجد بخط تلميذ الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بإزاء هذا السياق ما نصه: جميع الأحاديث السابقة ناطقة بأن أولاد المسلمين في الجنة، فقول الغزالي: الأخبار في الصبيان متعارضة، إطلاق مردود، والتعارض إنما هو في أطفال المشركين ا هـ .

قلت: حديث سمرة عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه جبريل عليه السلام وميكائيل أتياه فانطلقا به، وذكر حديثا طويلا، وفيه: وأما الشيخ.... إلخ، وفي رواية: بعد قوله على الفطرة، وكل بهم إبراهيم عليه السلام يربيهم إلى يوم القيامة .

وروى الطبراني في الأوسط من حديث أنس: "أطفال المشركين خدم أهل الجنة"، ورواه سعيد بن منصور، عن سليمان موقوفا وروى أحمد والحاكم والبيهقي في البعث من طريق مذهل بن إسماعيل: حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة رفعه: أطفال المؤمنين في جبل في الجنة، يكفلهم إبراهيم لآبائهم يوم القيامة، وفي لفظ للديلمي: "أولاد المؤمنين"، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وكذا صححه ابن حبان، وقد تابع مذهلا على رفعه وكيع، لكن رواه ابن مهدي، وأبو نعيم كلاهما عن الثوري فوقفاه، وقال الدارقطني: إنه أشبه .

وروى الحكيم من حديث أنس: "كل مولود يولد من والد كافر أو مسلم فإنما يولد على الفطرة على الإسلام كلهم، ولكن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فهودتهم، ونصرتهم، ومجستهم، وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا".

وروى الترمذي من حديث أبي هريرة: "كل مولود يولد على الملة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يشركانه قيل: يا رسول الله فمن هلك قبل ذلك قال: الله أعلم بما كانوا عاملين".

وروى أبو يعلى، والبغوي، والبارودي، والطبراني، والبيهقي من حديث الأسود بن مربع: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه".

ورواه عبد البر في التمهيد بلفظ: "ما بال قوم بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان. قال رجل: "أوليس إنما هم أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: أوليس خياركم أولاد المشركين، إنه ليس من مولود إلا وهو يولد على الفطرة، فيعرب عنه لسانه ويهودانه أبواه أو ينصرانه"، وحديث ثابت بن الحارث الأنصاري: ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد، أخرجه أيضا أبو نعيم.

وحديث ابن عباس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، رواه الطيالسي، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، من حديث أبي هريرة، ورواه أبو دواد والحكيم من حديث عائشة، ورواه عبد بن حميد من حديث أبي سعيد، وعند أحمد من حديث ابن عباس: "الله أعلم لما كانوا إذ خلقهم"، وحديث خديجة أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة، قالت: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: هم من آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت: ولا تزر وازرة وزر أخرى ، فقال: هم على الفطرة، أو قال: في الجنة. وحديث الصعب بن جثامة رواه أيضا عبد الرزاق في المصنف وأصحاب السنن عن ابن عباس، قال: حدثني الصعب بن جثامة.

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث علي أن المؤمنين أولادهم في الجنة، وأن المشركين أولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم ، وروى أحمد، والنسائي، والبغوي، وابن المنذر، وابن مردويه، والطبراني من حديث سلمة بن يزيد الجعفي: "الوائد والموؤدة في النار، إلا أن يدرك الوائد الإسلام فيسلم"، وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال [ ص: 568 ] ابن عباس في قوله تعالى: وإذا الموءودة سئلت هي المدفونة قال: فمن قال: إنهم في النار فقد كذب، بل هم في الجنة، وغير ذلك من الأخبار، وهي كما قال المصنف متعارضة .

(فإذن الإشكال والاشتباه أغلب في هذا المقام) اعلم أنه قد اختلف العلماء في أولاد المسلمين; فالأكثرون على الجزم بأنهم في الجنة، وقيل فيهم بالتوقف واحتج قائلهم بحديث عائشة عند مسلم الذي ذكره المصنف من قولها: "طوبى له عصفور من عصافير الجنة" إلخ، وحكى النووي الأول عن إجماع من يعتد به من علماء المسلمين، والتوقف عن بعض ولا يعتد به; قال: وأجاب العلماء عن حديث عائشة بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: أعطه، إني لأراه مؤمنا، قال: أو مسلما. الحديث. قال: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة .

وذكر المازري أن بعضهم ينكر الخلاف في ذلك لقوله تعالى: واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم قال: وبعض المتكلمين يقف فيهم، ولا يرى نصا قاطعا بكونهم في الجنة، ولم يثبت عنده الإجماع فيقول به، واستثني قبل ذلك من الخلاف أولاد الأنبياء عليهم السلام فقد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة، وحكى ابن عبد البر التوقف في أولاد المسلمين عن جماعة كثيرة من أهل السنة والحديث منهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، قال: وهو شبه ما رسمه مالك في موطئه في أبواب القدر، وما أورده في غير ذلك من الأحاديث، وعلى ذلك أكثر أصحابه، وليس فيه عن مالك شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة ا هـ .



وأما أطفال المشركين ففيهم مذاهب: أحدها أنهم في النار تبعا لآبائهم، والثاني أنهم في الجنة، والثالث: التوقف فيهم، والرابع: أنهم يمتحنون في الآخرة، والخامس أنهم في البرزخ، حكاه أبو العباس القرطبي عن قوم، قال: وأحسبهم من غير أهل السنة، وحكى النووي القول بأنهم في النار عن الأكثرين، والقول الثاني بأنهم في الجنة عن المحققين، قال: وهو الصحيح، ويستدل عليه بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وقوله: أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين، قال: وأولاد المشركين، رواه البخاري في صحيحه، ومنها قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، ولا يتوجه على المولود التكليف، ولا يلزمه قول الرسول حتى يبلغ، وهو متفق عليه، قال: والجواب عن حديث: الله أعلم بما كانوا عاملين، أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظه: الله أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا، والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ، وروى ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة قالت: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام، فنزلت: ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال: هم على الفطرة، أو قال: في الجنة، وروي أيضا عن ابن عباس قال: لا يزال أمر هذه الأمة مواسيا أو متقاربا أو كلمة شبه ذلك، وما يتبين حتى يتكلموا، أو ينظروا في الأطفال والقدر، قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك قال: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ فسكت، والله أعلم .




الخدمات العلمية