الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
النوع الرابع : ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب ; كالخمر ، والزنا ، والسرقة ، والقتل ، والغيبة ، والكبر ، والحسد ، وكل ذلك مما لا يمكن حصره وذكره مع غير أهله وضع الدواء في غير موضعه ، بل ينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق فيستدل أولا بالنبض والسحنة ووجود الحركات على العلل الباطنة ويشتغل بعلاجها فيستدل بقرائن الأحوال على خفايا الصفات ، وليتعرض لما وقف عليه ; اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له واحد أوصني يا رسول الله ولا تكثر علي : قال : لا تغضب وقال له آخر : أوصني يا رسول الله فقال : عليك السلام عليك باليأس مما في أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى ، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر ، وصل صلاة مودع ، وإياك وما يعتذر منه وقال رجل لمحمد بن واسع أوصني فقال : أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة ، قال وكيف : لي بذلك ? قال : الزم الزهد في الدنيا فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم في السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه ، وفي السائل الآخر مخايل الطمع في الناس ، وطول الأمل وتخيل محمد بن واسع في السائل مخايل الحرص على الدنيا وقال رجل لمعاذ أوصني فقال : كن رحيما أكن لك بالجنة زعيما فكأنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة وقال رجل لإبراهيم بن أدهم : أوصني فقال : إياك والناس وعليك ، بالناس ولا بد من الناس فإن الناس هم الناس وليس كل الناس بالناس ذهب الناس وبقي النسناس وما أراهم بالناس ، بل غمسوا في ماء اليأس فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة وأخبر عما كان هو الغالب على حاله في وقته ، وكان الغالب أذاه بالناس والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل وكتب ، معاوية رحمه الله إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري فكتبت إليه من عائشة إلى معاوية ، سلام الله عليك ، أما بعد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ، ومن التمس سخط الله برضا الناس ، وكله الله إلى الناس ، والسلام عليك فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التي تكون الولاة بصددها ، وهي مراعاة الناس ، وطلب مرضاتهم وكتبت إليه مرة أخرى : أما بعد ، فاتق الله ; فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس ، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا ، والسلام .

التالي السابق


(النوع الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب; كالخمر، والزنا، والسرقة، والقتل، والغيبة، والكبر، والحسد، وكل ذلك مما لا يمكن حصره) لكثرته (وذكره مع غير أهله مثل وضع الدواء في غير موضعه، بل ينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق) أي: العارف البصير بفن الطب (فيستدل أولا بالنبض والسحنة) أي: ظاهر اللون والنبض جس الطبيب عروق يده من الأوردة والشرايين، (ووجوه الحركات على العلل الباطنة) ، وهي التي في باطن البدن، ولكل منها أحكام وقواعد معروفة في كتب الفن، (ويشتغل بعلاجها) بعد الاستدلال عليها بما ذكر (فليستدل) العالم (بقرائن الأحوال على خفايا [ ص: 620 ] الصفات، وليتعرض لما وقف عليه; اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له واحد: يا رسول الله أوصني ولا تكثر علي: قال: لا تغضب) رواه أحمد، والبخاري، والترمذي من حديث أبي هريرة، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب ذم الغضب. (وقال له آخر: أوصني يا رسول الله فقال: عليك باليأس مما في أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاة مودع، وإياك وما يعتذر منه) رواه العسكري في الأمثال من طريق القعنبي: حدثنا محمد بن أبي حميد، حدثني إسماعيل الأنصاري - هو ابن محمد بن سعد بن أبي وقاص-، عن أبيه، عن جده أن رجلا قال: يا رسول الله، أوصني، وأوجز. فقال: عليك باليأس، فساقه. وفيه: وصل صلاتك وأنت مودع.

ورواه الحاكم من طريق أبي عامر العقدي: حدثنا محمد بن أبي حميد به مثله وصححه، ورواه ابن ماجه من طريق عثمان بن جبير، عن أبي أيوب الأنصاري، قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني وأوجز، قال: إذا قمت إلى صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام يعتذر منه، واجمع اليأس عما في أيدي الناس.

ورواه ابن منيع والقضاعي عن حديث ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، حدثني حديثا، واجعله موجزا لعلي أعيه، فقال صلى الله عليه وسلم: صل صلاة مودع كأنك لا تصلي بعدها، وأيس عما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة .

ومن هذا الباب ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من طريق محمد بن عبد الله الطفاوي، سمعت العاصي بن عمر، وقال: خرج أبو الغادية بن الحارث، وأم الغادية مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلما، فقالت المرأة: أوصني يا رسول الله، قال: إياك وما يسوء الأذن، كذا أخرجه أبو نعيم، وابن منده كلاهما في المعرفة، وهو مرسل، فالعاصي لا صحبة له، بل قال الحافظ ابن حجر في بعض تصانيفه: إنه مجهول، لكن ذكره ابن حبان ولم يذكر فيه جرحا، وقال: سمع من عمته أم الغادية، رواه عنه تمام، ورواية تمام في هذا الحديث عند ابن منده في المعرفة، والخطيب في جامعه من طريقه عن العاصي، عن عمته أم الغادية قالت: خرجت مع رهط من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أردت الانصراف، قلت: يا رسول الله، أوصني قال: إياك وما يسوء الأذن، وكذا أخرجه ابن سعد في الطبقات بزيادة ثلاث، وكذا رواه العسكري في الأمثال،. (وقال رجل لمحمد بن واسع) البصري رحمه الله تعالى (أوصني فقال: أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة، قال: كيف لي بذلك؟ قال: الزم الزهد في الدنيا) أخرجه أبو نعيم في الحلية قال: حدثني أبي حدثنا أبو الحسن بن أبان، حدثنا أبو بكر بن عبيد، حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير الغزي، حدثنا خزيمة أبو محمد قال: قال رجل لمحمد بن واسع: أوصني، فساقه (فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم في السائل الأول مخايل الغضب) أي: مشابهه (فنهاه عنه، وفي السائل الآخر مخايل الطمع في الناس، وطول الأمل) وعدم حضور القلب في الصلاة، وكثرة الاعتذار لإخوانه، فنهاه عنها، (وتخيل محمد بن واسع في السائل مخايل الحرص على الدنيا) فأمره بالزهد عنها، (وقال رجل لمعاذ بن جبل) رضي الله عنه (أوصني فقال: كن رحيما) أي: رقيق القلب (أكن لك بالجنه زعيما) أي: ضامنا وكفيلا، نقله صاحب القوت .

وروى أبو نعيم في الحلية من طريق الأعمش عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: قال رجل لمعاذ: علمني، قال: وهل أنت مطيعي؟ قال: إني على طاعتك لحريص، قال: صم وأفطر، ونم واكتسب، ولا تأثم ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم (فإنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة) فقال له ما قال، (وقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أوصني قال: إياك والناس، عليك بالناس ولا بد) لك (من الناس) أي: من مخالطتهم (فإن الناس هم الناس) أي: الكمل منهم هم الذين يخالطون، (وليس كل الناس بالناس) أي: ليس كلهم يوصفون بكمال الإنسانية (ذهب الناس وبقي النسناس) بفتح أوله، قيل: نوع من حيوانات البحر، وقيل: نوع من جنس الخلق يثب على رجل واحدة، وقيل: يأجوج ومأجوج، كذا في المصباح، وكأنه أراد: ذهب الكرام وبقي الأرذال، (وما أراهم بالناس، بل غمسوا في ماء اليأس) أي: أؤيس من خيرهم فلا فائدة في خلطتهم [ ص: 621 ] وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة مطرف بن عبد الله بن الشخير من طريق مهدي بن ميمون، عن غيلان بن جرير أن مطرفا كان يقول: هم الناس وهم النسناس، وأرى ناسا غمسوا في ماء اليأس (فكأنه رحمه الله تفرس فيه) أي: في السائل (آفة المخالطة) بهم، (وأخبر عما كان هو الغالب على حاله في وقته، وكان الغالب) عليه (أذاه بالناس) فنهاه عن خلطتهم ليسلم من شرهم أو يسلموا منه، (والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل، و) من ذلك (كتب معاوية رحمه الله تعالى إلى) أم المؤمنين (عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري) ، وذلك حين تولى الإمارة (فكتبت إليه) أي: أمرت بكتابته (من عائشة إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس سخط الله برضا الناس، وكله الله إلى الناس، والسلام عليك) ، وقد اقتصرت على هذا الحديث الجامع المانع (فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التي يكون الولاة للأمور بصددها، وهي مراعاة الناس، وطلب مرضاتهم) . والحديث قال العراقي: رواه الترمذي، والحاكم، وفي سند الترمذي من لم يسم. اهـ .

قلت: وكذلك رواه ابن المبارك في الزهد، وفي بعض نسخ الكتاب بتقديم الجملة الثانية، ومثله عند الترمذي، وابن المبارك، ورواه ابن حبان، وابن عساكر بلفظ: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس.

ورواه أبو بكر بن لال والخرائطي في مساوي الأخلاق بلفظ: "من التمس محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده من الناس ذاما" (وكتبت) رضي الله عنها (إليه مرة أخرى: أما بعد، فاتق الله; فإنك إذا اتقيت الله كفاك الله الناس، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا، والسلام) .

وقد روي معناه من حديث واثلة، وابن عباس، وعلي; فحديث واثلة: "من اتقى الله أهاب الله منه كل شيء، ومن لم يتق الله أهابه الله من كل شيء" رواه الحكيم في النوادر .

وحديث ابن عباس: "من اتقى الله وقاه كل شيء" رواه ابن النجار.

وحديث علي: "من اتقى الله عاش قويا، وسار في بلاده آمنا"، وعند أبي الشيخ من حديث واثلة: من خاف الله أخاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء، وقد رواه كذلك الرافعي في تاريخه، وعبد الرحمن بن محمد الكرخي في أماليه من حديث ابن عمر.




الخدمات العلمية