الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة ، والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن الوعظ فيه تضييع زمان .

فإن قلت : فإن كان الواعظ يتكلم في جمع أو سأله من لا يدري باطن حاله أن يعظه ، فكيف يفعل ? فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق في الحاجة إليه ، إما على العموم وإلا على الأكثر ، فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية ، فالأغذية للكافة والأدوية لأرباب العلل .

ومثاله ما روي أن رجلا قال : لأبي سعيد الخدري أوصني . قال : عليك بتقوى الله عز وجل ، فإنها رأس كل خير ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء ، وعليك بالصمت إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان وقال رجل للحسن أوصني . فقال : أعز أمر الله يعزك الله وقال لقمان لابنه : يا بني زاحم العلماء بركبتيك ، ولا تجادلهم فيمقتوك وخذ من الدنيا بلاغك وأنفق فضول كسبك لآخرتك ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا وعلى أعناق الرجال كلا وصم صوما يكسر شهوتك ، ولا تصم صوما يضر بصلاتك ; فإن الصلاة أفضل من الصوم ، ولا تجالس السفيه ، ولا تخالط ذا الوجهين وقال أيضا لابنه : يا بني لا تضحك من غير عجب ، ولا تمش في غير أرب ، ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك ، وتصلح مال غيرك ; فإن مالك ما قدمت ، ومال غيرك ما تركت يا بني إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ، ومن يقل الشر يأثم ، ومن لا يملك لسانه يندم وقال رجل لأبي حازم: أوصني فقال كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه وقال موسى للخضر عليهما السلام أوصني فقال : كن بساما ، ولا تكن غضابا ، وكن نفاعا ، ولا تكن ضرارا ، وانزع عن اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعير الخطائين بخطاياهم ، وابك على خطيئتك يا ابن عمران وقال رجل لمحمد بن كرام أوصني فقال : اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك .

وقال رجل لحامد اللفاف أوصني فقال : اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال : وما غلاف الدين ، قال : ترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه ، وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه ، وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى : أما بعد فخف مما خوفك الله ، واحذر مما حذرك الله ، وخذ مما في يديك لما بين يديك ، فعند الموت يأتيك الخبر اليقين ، والسلام . وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه ، فكتب إليه : أما بعد ، فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك ، ولا بد لك من مشاهدة ذلك ; إما بالنجاة ، وإما بالعطب واعلم أن من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن نظر في العواقب نجا ، ومن أطاع هواه ضل ، ومن حلم غنم ، ومن خاف أمن ، ومن أمن اعتبر ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم ، فإذا زللت فارجع وإذا ندمت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أما بعد ، فإن الدنيا دار عقوبة ، ولها يجمع من من لا عقل له ، وبها يغتر من لا علم عنده ، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه ، يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطاة أما بعد ، فإن الدنيا عدوة أولياء الله ، وعدوة أعداء الله فأما ; أولياؤه فغمتهم ، وأما أعداؤه فغرتهم وكتب أيضا إلى بعض عماله : أما بعد فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك ، واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئا إلا كان زائلا عنهم باقيا عليك ، واعلم إن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين ، والسلام .

فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته ، فهذه المواعظ مثل الأغذية التي يشترك الكافة في الانتفاع بها .

ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصي ، واستسرى الفساد ، وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعا وينشدون أبياتا ، ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة علمهم ، ويتشبهون بحال غيرهم ، فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادرا من القلب ليصل إلى القلب بل القائل متصلف والمستمع متكلف ، وكل واحد منهما مدبر ومتخلف .

فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى ، وطلب العلماء أول علاج العاصين فهذا أحد أركان العلاج وأصوله .

التالي السابق


(فإذا على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات) الباطنة (الخفية وتوسم الأحوال اللائقة) بالمقام والأشخاص (ليكون اشتغاله بالمهم) المقصود (فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد) من الحاضرين (غير ممكنة، والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن الوعظ فيه تضييع زمان) ووضع الشيء في غير موضعه .

(فإن قلت: فإن كان الواعظ يتكلم في جمع) من الناس، (أو سأله من لا يدري باطن حاله أن يعظه، فكيف يفعل؟ فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة) ، وفي نسخة: عامة (الخلق في حاجة إليه، إما على العموم وإما على الأكثر، فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية، فالأغذية للكافة) أي: العامة منهم، (والأدوية لأرباب العلل) الباطنة، (ومثاله ما روي أن رجلا قال: لأبي سعيد الخدري) رضي الله عنه (أوصني. قال: عليك بتقوى الله عز وجل، فإنها رأس كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء، وعليك بالصمت إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان) ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أبي سعيد بلفظ: "عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلمين، وعليك بذكر الله وتلاوة كتاب الله فإنه نور لك في الأرض، وذكر لك في السماء، وأخزن لسانك إلا من خير; فإنك بذلك تغلب الشيطان، هكذا رواه ابن الضرير، وأبو يعلى، والخطيب، وعند أبي الشيخ من [ ص: 622 ] حديثه بلفظ: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض، وعليك بطول الصمت فإنه مطردة للشياطين، وعون لك على أمر دينك، وقل الحق وإن كان مرا. ورواه كذلك أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث أبي ذر، (وقال رجل للحسن) البصري رحمه الله (أوصني. فقال: أعز أمر الله يعزك الله) وهذا قد روي مرفوعا من حديث أبي أمامة، ورواه الديلمي في مسند الفردوس، (وقال لقمان لابنه: يا بني زاحم العلماء بركبتيك، ولا تجادلهم فيمقتوك) أي: يبغضوك فتسقط من أعينهم، (وخذ من الدنيا بلاغك) أي: قدر ما يبلغك للآخرة، (وأنفق فضول كسبك) أي: ما فضل من مالك الذي اكتسبته (لآخرتك) أي: في سبيل الخيرات، (ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا) أي: عولة على الناس محتاجا إليهم، (وعلى أعناق الرجال كلا) أي: ثقيلا، (وصم صوما يكسر شهوتك، ولا تصم صوما يضر بصلاتك; فإن الصلاة أفضل من الصوم، ولا تجالس السفيه، ولا تخالط ذا الوجهين) أي: الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه .

وقد روي هذا الكلام عنه مفرقا فأخرج عبد الله بن أحمد في الزوائد عن عبد الله بن عبد الوهاب المكي قال لقمان: يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء، وقد تقدم في كتاب العلم .

وروى الطبراني، والرامهرمزي في الأمثال بسند ضعيف عن أبي أمامة قال: قال لقمان لابنه: عليك بمجالسة العلماء، واستمع للحكماء فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر، وروي أيضا مرفوعا من حديث أبي أمامة بلفظ: "جالسوا العلماء، وزاحموهم بركبكم، فإن الله يحيي القلوب الميته بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء.

وروى ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب في تالي التلخيص عن أبي جعفر الخطمي أن حبه عمرو بن حبيب وكانت له صحبة أوصى بنيه فقال: يا بني، إياكم ومجالسة السفهاء; فإن مجالستهم داء، إنه من يحلم على السفيه يسد بحلمه الحديث، (وقال) لقمان (أيضا لابنه: يا بني لا تضحك من غير عجب، ولا تمش في غير أرب، ولا تسأل عما لا يعنيك) أي: لا يهمك، (ولا تضيع مالك، وتصلح مال غيرك; فإن مالك ما قدمت، ومال غيرك ما تركت) روى أحمد في الزهد عن شرحبيل بن مسلم أن لقمان قال: أقصر عن اللجاجة، ولا أنطق فيما لا يعنيني، ولا أكون ضحاكا من غير عجب، ولا مشاء إلى غير أرب، (يا بني إن من يرحم يرحم) أي: من يرحم الناس يرحمه الله .

وروى الشيخان من حديث جرير: "من لا يرحم لا يرحم" وفي رواية: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، (ومن يصمت يسلم) أي: من الشر رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر، ومن صمت نجا، (ومن يقل الخير يغنم، ومن يقل الشر يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم) ، وقد تقدم هذا في كتاب الصمت .

(وقال رجل لأبي حازم) سلمة بن دينار المدني التابعي الشهير بالأعرج: أوصني فقال: كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه، وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه. وروى أبو نعيم في الحيلة في ترجمة عمر بن عبد العزيز من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز، عظني يا أبا حازم قال: قلت: اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ فيه الآن، وما تكره أن تكون فيه تلك الساعة فدعه الآن، وروي في ترجمة أبي حازم من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال: انظر إلى الذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وانظر الذي تكره أن يكون معك ثم فاتركه اليوم. وقال أيضا: كل عمل تكره الموت لأجله فاترك ثم لا يضرك متى مت. (وقال موسى للخضر عليهما السلام أوصني فقال: كن بساما، ولا تكن غضابا، وكن نفاعا، ولا تكن ضرارا، وانزع عن العجاجة، ولا تمش من غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران) رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: قال الخضر لموسى حين لقيه: انزع عن اللجاجة، ولا تمش من غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، والزم بيتك، وابك على خطيئتك، ورواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر عن أبي عبد الله أظنه الملطي، قال: أراد موسى أن [ ص: 623 ] يفارق الخضر فقال له موسى: أوصني قال: كن نفاعا، ولا تكن ضرارا، وكن بشاشا، ولا تكن غضابا، وارجع عن اللجاجة، ولا تمش من غير حاجة، ولا تعير امرأ بخطيئة، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.

وروى ابن أبي حاتم، وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال: بلغني أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر قال له: ادع لي. فقال له: يسر الله عليك طاعتك.

(وقال رجل لمحمد بن كرام) بن عبد الله السجستاني الزاهد، جاور بمكة خمس سنين، ورد نيسابور، وأحدث مذهبا منه أن الله جسم في مكان مماس لعرشه فوقه، وتبعه على ذلك خلق كثير بنيسابور وهراة، فحبسه طاهر بن عبد الله أمير خراسان، ثم انصرف إلى الشام، ثم عاد إلى نيسابور فحبس ثانيا، ثم خرج منها إلى القدس، فمات بها سنة 355، وكان يظهر التقشف، والزهد، وسمع الحديث من علي بن حجر والطبقة، وصحب أحمد بن حرب الزاهد، وأكثر عن أحمد بن عبد الله الجويباري أحد الوضاعين، وممن روى عنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق، ومن مشهور أصحابه أبو يعقوب إسحاق بن محمشاه الزاهد الواعظ إمامهم في عصره، أسلم على يده من أهل الكتابين والمجوس نحو خمسة آلاف رجل وامرأة، ومات سنة 383، واختلف في ضبط والده; فالمشهور بالفتح والتشديد، وهو لقب له كان يحفظ الكرم بسجستان، وقيل: بالتخفيف، وهو الذي كان يذهب إليه الحافظ ابن حجر، ويدل له قول الشاعر:


والدين دين محمد بن كرام

وفيه تحقيق أودعناه في شرح القاموس (أوصني فقال: اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك، وقال رجل لحامد اللفاف) له ذكر في الحلية لأبي نعيم: (أوصني فقال: اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف كيلا تدنسه الآفات قال: وما غلاف الدين، قال: ترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه، وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه، وكتب الحسن) البصري رحمه الله تعالى (إلى عمر بن عبد العزيز) الأموي (رحمه الله تعالى: أما بعد فخف ما خوفك الله، واحذر مما حذرك الله، وخذ مما في يديك لما بين يديك، فعند الموت يأتيك الخبر اليقين، والسلام. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن) البصري رحمه الله تعالى (يسأله أن يعظه، فكتب إليه: أما بعد، فإن الهول الأعظم والأمور والمفظعات) أي: الشديدات (أمامك، ولا بد لك من مشاهدة ذلك; إما بالنجاة، وإما بالعطب) أي: الهلاك، (واعلم أن من حاسب نفسه) في الدنيا (ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضل، ومن حلم غنم، ومن خاف أمن، ومن أمن اعتبر، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإذا زللت فارجع) عن الزلة، (وإذا ندمت فأقلع) عن المعصية، (وإذا جهلت) في أمر، (فسل) العلماء، (وإذا غضبت فأمسك) ، والسلام .

وروى صاحب نهج البلاغة عن علي رضي الله عنه أنه قال: من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، (وكتب مطرف بن عبد الله) بن الشخير من أقران الحسن البصري (إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أما بعد، فإن الدنيا دار عقوبة، ولها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه، يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء) . روى أحمد والبيهقي من طريق زويد عن أبي إسحاق عن عروة عن عائشة مرفوعا: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له"، ورجال أحمد رجال الصحيح غير زويد، وهو ثقة .

ورواه أحمد أيضا، والشيرازي في الألقاب، والبيهقي عن ابن منصور موقوفا، (وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن أرطاة) الفزاري كان عاملا لعمر بن عبد العزيز على البصرة، ونقل سنة اثنين ومائة، روى له البخاري في كتاب الأدب المفرد: (أما بعد، فإن الدنيا عدوة أولياء الله، وعدوة أعداء الله; أما أولياؤه فغمتهم، وأما أعداء الله فغرتهم) أخرجه أبو نعيم في الحلية، وفيه فإن الدنيا عدوة الله، وعدوة أولياء الله إلخ، وقد تقدمت الإشارة إليه في شرح خطبة كتاب ذم الدنيا، (وكتب) عمر بن عبد العزيز (أيضا إلى بعض عماله: أما بعد فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد [ ص: 624 ] فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك، واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئا إلا كان زائلا عنهم باقيا عليك، واعلم أن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين، والسلام) أخرجه أبو نعيم في الحلية، ومن كتابه إلى بعض عماله: أما بعد، فاتق الله فيمن وليت أمره، ولا تأمن مكره في تأخير عقوبته; فإنه إنما يعجل بالعقوبة من يخاف الفوت، والسلام، ومن كتابه إلى رجل: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، والانتشار لما استطعت من مالك، وما رزقك الله إلى دار قرارك، فإنك والله لكأنك ذقت الموت، وعاينت ما بعده بتصرف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل، ونقض العمر، مستعدان بمن بقي بمثل الذي أصابه من قد مضى فنستغفر الله لسيئ أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نلفظ به مما يقصر عنه قوانا .

وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أوصني قال: أوصيك بتقوى الله وإيثاره تخف عليك المؤنة فيحسن لك من الله المعونة، وكتب أيضا إلى رجل: أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل .

وكتب إلى بعض عماله: أما بعد فكأن العباد قد عادوا إلى الله، ثم ينبئهم بما عملوا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه، ولا منازع في أمره، ولا تقاطع في حقه الذي استحفظ عباده، وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمه، وآتاك من كرامته; فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، وأكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك فلا مناص ولا فوت، وأكثر ذكر يوم القيامة وشدته، فإن ذلك يدعوك إلى الزيادة فيما زهدت فيه، والرغبة فيما رغبت فيه، وكن مما أوتيت من الدنيا على وجل فإن من لا يحذر ذلك ولا يخوفه يوشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه; فإن فيه لعمري شغلا عن دنياك، ولا تدرك العمل حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته .

وكتب إلى بعض عماله: أما بعد، فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى بين الناس إلا بالحق، وهم لا يظلمون .

وقال لرجل: أوصيك بتقوى الله، فإنها ذخيرة الفائزين، وحرز المؤمنين، وإياك والدنيا أن تفتنك، فإنها قد فعلت ذلك بمن كان قبلك، فإنها تغر المطمئنين إليها، وتفجع الواثق بها، وتثلم الحريص عليها، ولا تبقى لمن استبقاها، ولا يدفع المتلف عنها من حواها لمناها مناظر بهجة، ما قدمت منها أمامك لم يسبقك، وما أخرت منها خلفك لم يلحقك.

(فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته، فهذه المواعظ مثل الأغذية التي تشترك الكافة في الانتفاع بها، ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ) أي: انسد، (وغلبت المعاصي، واستسرى الفساد، وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعا) أي: يزينون كلمات موزونة يتكلفون فيها، (وينشدون أبياتا بمناسبة ما يوردونه، ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة عملهم، ويتشبهون بحال غيرهم، فسقط عن قلوب العامة وقارهم) وهيبتهم، (ولم يكن كلامهم صادرا من القلب ليصل إلى القلب) ; فقد روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: الكلام الذي يصدر عن القلب يقع على القلب، (بل القائل متصلف) أي: متكبر، (والمستمع متكلف، وكل واحد منهما مدبر ومتخلف) عن حلبة السباق .

(فإذا كان طلب الطبيب أول علاج المرضى، وطلب العلماء أول علاج العاصين فهذا أحد أركان العلاج وأصوله) .




الخدمات العلمية