الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الآثار : فقال ابن عباس رضي الله عنهما ذللت طالبا فعززت مطلوبا وكذلك قال ابن أبي مليكة رحمه الله ما رأيت مثل ابن عباس ، إذا رأيته رأيت أحسن الناس وجها ، وإذا تكلم فأعرب الناس لسانا وإذا أفتى فأكثر الناس علما .

وقال ابن المبارك رحمه الله عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة وقال بعض الحكماء إني لا أرحم رجالا كرحمتي لأحد رجلين رجل يطلب العلم ولا يفهم ورجل يفهم العلم ولا يطلبه .

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة .

وقال أيضا : : " كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابع فتهلك " وقال عطاء مجلس علم يكفر سبعين مجلسا من مجالس اللهو .

وقال عمر رضي الله عنه موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه .

وقال الشافعي رضي الله عنه طلب العلم أفضل من النافلة .

وقال ابن عبد الحكم رحمه الله كنت عند مالك أقرأ عليه العلم ، فدخل الظهر فجمعت الكتب لأصلي فقال يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية .

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله .

فضيلة التعليم .

أما الآيات فقوله عز وجل ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون والمراد هو التعليم والإرشاد .

وقوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وهو إيجاب للتعليم .

وقوله تعالى : وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وهو تحريم للكتمان ، كما قال تعالى في الشهادة : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه

التالي السابق


(وأما الآثار: قال) عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما (ذللت طالبا) أي: صرت ذليلا في حال الطلب للعلم، كأنه يقول: أهنت نفسي واخترت المشقة في طلب العلم (فعززت مطلوبا) أي: فصرت عزيزا في حال كوني مطلوبا، ويدل لذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك من رواية يزيد بن هارون، والطبراني من رواية وهب بن جرير، كلاهما عن جرير بن حازم، وهو والد الأخير، قال: سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم كثير، فقال: العجب والله لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجده قائلا، فأتوسد ردائي على باب داره، تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إلي، فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لك؟ قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: هلا أرسلت إلي فآتيك! فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك، وكان ذلك الرجل يراني، فذهب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد احتاج الناس إلي، فيقول: أنت كنت أعلم مني.

(ولذلك قال) أبو بكر عبد الله بن عبد الله (بن أبي مليكة) وأبو مليكة اسمه زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي، كان أبو بكر مؤذن ابن الزبير وقاضيه، سمع عائشة وابن عباس، وعنه أيوب والليث، قال: بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف، فكنت أسأل ابن عباس، توفي سنة ثمانية عشر ومائة: (ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته رأيت أحسن الناس وجها) وكان جميل الصورة (كأبيه، فإذا تكلم فأعرب الناس) أي: أفصحهم وأظهرهم (لسانا) وبيانا (فإذا أفتى فأكثر الناس علما) .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية يونس بن بكير، حدثنا أبو حمزة الثمالي، عن أبي صالح قال: لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخرا، لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا يذهب، قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال: ضع لي وضوءا، قال: فتوضأ وجلس، وقال: اخرج فقل: هلم، من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه فليدخل، فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا .

ثم قال: اخرج، فقل: من أراد أن يسأل عن تفسير القرآن وتأويله فليدخل، قال: فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا .

ثم قال: اخرج، فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل، فقلت لهم: فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا .

[ ص: 102 ] ثم قال: اخرج فقل لهم: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل، فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا .

ثم قال: اخرج، فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل، فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم .

قال أبو صالح: فلو أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان فخرا لها، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس.

(وقال ابن المبارك) تقدمت ترجمته: (عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة) بضم الراء، واحد المكارم، أي: لأن المكارم كلها في طلب العلم؛ فإنه العز الباقي، وما عداه يزول .

(وقال بعض الحكماء) وفي بعض النسخ: العلماء (إني لا أرحم رجلا كرحمتي لأحد رجلين رجل يطلب العلم ولا يفهم) أي: لا يتمكن من الفهم لأسراره وحقائقه، فهو أبدا في تعب، حقيق أن يرحم (ورجل يفهم) أي: أعطي ذهنا وقادا، وفكرة قابلة للفهم (ولا يطلب) إما كبرا أو حياء أو غير ذلك، فهو يضع نفسه، حري أن يرحم .

وقريب من هذين من طلب وفهم ولم يجد من يعلمه .

(وقال أبو الدرداء) عويمر بن عامر الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلم عقب بدر، وفرض له عمر، فألحقه بالبدريين لجلالته، مات سنة اثنين وثلاثين (لأن أتعلم مسألة) أي: في الدين، أي: مسائل العلم (أحب إلي من قيام ليلة) .

وأخرج الخطيب بسنده إليه قال: مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة.

وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية قيس بن عمار الرهيني، عن سالم بن أبي الجعد، عن معداد، عن أبي الدرداء قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

(وقال) أبو الدرداء (أيضا: العالم والمتعلم شريكان في الخير، وسائر الناس همج لا خير فيهم) الهمج محركة ذباب صغير كالبعوض يقع على وجوه الدواب، ويقال للرعاع همج على التشبيه، وهذا قد روي مرفوعا من حديث أخرجه الطبراني في الكبير، والديلمي في مسند الفردوس بسند فيه معاوية بن يحيى الصدفي، إلا أنه ليس فيه همج، وقوله: "شريكان في الخير" أي: لاشتراكهما في نشر العلم، ونشره أعظم أنواع البر، وبه قوام الدنيا والدين .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية زائدة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء قال: "فإني أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون، فإن معلم الخير والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في سائر الناس بعدهما" .

وأخرج أبو خيثمة في كتاب العلم، عن جرير، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، فساقه، إلا أنه قال: "وليس في الناس خير بعده" وأخرج أبو نعيم من رواية يحيى بن إسحاق، حدثنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي الدرداء قال: "الناس ثلاثة: عالم أو متعلم والثالث همج، لا خير فيه".

وأخرج أيضا من رواية شعبة، عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: قال أبو الدرداء: "تعلموا فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في سائر الناس بعدهما".

وأخرج أيضا من رواية يزيد بن هارون، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: قال أبو الدرداء: "يا أهل دمشق أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء" الحديث، وفيه: " ألا فتعلموا وعلموا؛ فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما" .

وأخرج أيضا من رواية الحجاج بن دينار، عن معاوية بن قرة، عن أبيه عن أبي الدرداء قال: "تعلموا قبل أن يرفع العلم إن رفع العلم ذهاب العلماء، إن العالم والمتعلم في الأجر سواء، وإنما الناس رجلان عالم ومتعلم، ولا خير فيما بين ذلك".

(وقال) أبو الدرداء (أيضا: "كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن رابعا فتهلك") وفي بعض الروايات: "متبعا" بدل "متعلما" وقد روي مثل ذلك عن ابن مسعود أيضا .

وأخرج البيهقي والطبراني في الأوسط والبزار في مسنده من رواية عطاء بن مسلم الخفاف، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رفعه: "اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا، ولا تكن خامسا فتهلك".

ثم قال البيهقي: تفرد به عطاء عن خالد، وإنما يروى عن ابن مسعود وأبي الدرداء من قولهما، قال عطاء: قال لي مسعر: زدتنا خامسة لم تكن عندنا، قال ابن عبد البر: الخامسة معاداة العلماء وبغضهم، ومن لم يحبهم فقد أبغضهم، أو قارب، وفيه الهلاك .

قال الهيثمي: ورجال الحديث موثقون، وتبعه السمهودي.

قال: [ ص: 103 ] المناوي: هو غير مسلم؛ فقد قال أبو زرعة العراقي الحافظ في المجلس الثالث والأربعين بعد الخمسمائة من إملائه: هذا حديث فيه ضعف، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وعطاء بن مسلم مختلف فيه .

وقال عبيد عن أبي داود: إنه ضعيف، وقال غيره: إنه ليس بشيء. اهـ .

وأخرج أبو خيثمة في كتاب العلم وهو أول حديث الكتاب فقال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن عثمان بن سلمة، عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: "اغد عالما أو متعلما ولا تغدين ذلك".

وقال: حدثنا إسحاق بن سليمان، سمعت حنظلة يحدث عن عون، عن عبد الله قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: "يقال: إن استطعت أن تكون عالما فكن عالما، فإن لم تستطع فكن متعلما، فإن لم تكن متعلما فأحبهم، فإن لم تحبهم فلا تبغضهم، فقال عمر: سبحان الله! لقد جعل الله له مخرجا".

(ولنعم المجلس مجلس تذكر فيه الحكمة) أي يتذاكر بها فيه، والمراد بها العلوم الشرعية (وتنشر فيه الرحمة) أي: ما يكون سببا لنيل الرحمة، وهذه الجملة بتمامها سقطت من بعض النسخ .

(وقال عطاء) هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم المكي أحد الإعلام، روى عن عائشة وأبي هريرة وخلق، وعنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث، مات سنة خمسة عشر ومائتين عن ثمان وثمانين: (مجلس ذكر) أعم من أن يكون مجلس علم، أو اجتمعوا يذكرون الله (يكفر سبعين مجلسا من مجالس اللهو) المراد به التكثير لا خصوص العدد، وقد ورد في كفارة المجالس أحاديث .

(وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (موت ألف عابد قائم الليل والنهار) أي في عبادة الله تعالى (أهون من موت عاقل بصير) أي: كامل العقل تامه متبصر (بحلال الله وحرامه) أي: بمعرفة ما أحل الله مما حرمه، وذلك لأن العابد نفعه من عبادته قاصر على نفسه، وأما العالم فإنه يفيد غيره، فيكون سببا لبقاء هذا الدين، والمراد بالعابد مع الجهل، أو الذي اشتغل بالعبادة مع علمه وترك التعليم .

ويروى عنه: " موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه" ووجهه أن هذا العالم يهدم على إبليس ما يبنيه بعلمه وإرشاده، والعابد علمه مقصور على نفسه .

(وقال) محمد بن إدريس (الشافعي) رحمه الله تعالى فيما أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث من رواية الأصم قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة) وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: ما تقرب إلى الله عز وجل بعد أداء الفرائض بأفضل من طلب العلم .

(وقال) الفقيه أبو محمد عبد الله (بن عبد الحكم) بن أعين بن الليث مولى امرأة من موالي عثمان بن عفان، وهو من الطبقة الصغرى من أصحاب مالك من أهل مصر، أخذ عن مالك، وروى عنه الأكابر، وإليه انتهت الرياسة والجاه بمصر، وعليه نزل الإمام الشافعي، فأكرمه، وعنده مات، مات سنة 214 عن ستين سنة، وأما ابنه محمد فقال ابن يونس: كان مفتي مصر، روى عن ابن وهب وطائفة، وعنه النسائي وابن خزيمة والأصم، وآخرون، مات سنة ثمان وستين ومائتين: (كنت عند مالك) بن أنس الإمام بالمدينة (أقرأ عليه العلم، فدخل) وقت (الظهر فجمعت الكتب) وقمت (لأصلي) أي: النافلة كما يدل له السياق (فقال) مالك: (يا هذا ما الذي قمت إليه) من النافلة (بأفضل مما كنت فيه) من الاشتغال بالعلم (إذا صحت النية) بأن يكون تعلمه للعمل به لله تعالى، فنبه مالك بقوله هذا على فضل طلب العلم، وشرط فيه صحة النية .

وهذه القصة نسبها ابن القيم إلى ابن وهب، ولفظه: وقال ابن وهب: كنت عند مالك، فحانت صلاة الظهر أو العصر، وأنا أقرأ وأنظر في العلم بين يديه، فجمعت كتبي وقمت لأركع، فقال لي مالك: ما هذا؟ فقلت: أقوم إلى الصلاة، فقال: إن هذا لعجب! ما الذي قمت إليه أفضل من الذي كنت فيه إذا صحت النية .

وبمثل هذا روي عن سفيان، أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث من رواية وكيع، قال: سمعت سفيان يقول: لا نعلم شيئا من الأعمال أفضل من طلب العلم والحديث لمن حسنت فيه نيته .

(وقال أبو الدرداء) رضي الله عنه: (من رأى أن الغدو) أي: الذهاب أول النهار، وزاد في رواية: والرواح (إلى) طلب ( العلم) وتحصيله (ليس بجهاد) أي: حقيقة أو قائما مقامه (فقد نقص في [ ص: 104 ] عقله ورأيه) بل هو المجاهد الأكبر؛ لأن الجهاد يقاتل قوما مخصوصين في قطر مخصوص، والعالم حجة الله على المعارض في سائر الأقطار، وبيده سلاح العلم، يقاتل به؛ فقد أخرج الديلمي وأبو نعيم، عن عمار بن ياسر، وأنس بن مالك، رفعاه: "طالب العلم كالغادي والرائح في سبيل الله عز وجل".

وأخرج الديلمي أيضا عن أنس: "طالب العلم أفضل عند الله من المجاهد في سبيل الله" ومثله قول كعب الأحبار: "طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله عز وجل".

(فضيلة التعليم)

تقدم تعريفه والاختلاف فيه، وإنما قدم التعلم عليه لكونه أهم، أورد فيها ست آيات، فقال: (أما الآيات فقوله تعالى) : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .

قال: (والمراد) من الإنذار (هو التعليم والإرشاد) قال ابن عرفة: الإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه كل منذر معلم، ولا عكس اهـ .

فحينئذ تفسيره بالتعليم هو المطابق، كما أنه يأتي بمعنى الإعلام أيضا كما تقدم .

وأما بالإرشاد فهو تفسير باللازم، كما لا يخفى، ثم إن الإنذار يتعدى باثنين لنفسه، كقوله تعالى: إنا أنذرناكم عذابا قريبا ويجوز في ثاني مفعوليه الحذف اقتصارا لا اختصارا، كما هنا، ونحو: كلوا واشربوا، وهذه الآية ندب الله تعالى بها المؤمنين إلى التفقه في الدين، وهو تعلمه، وقد تقدم: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وهو التعليم .

وقد اختلف في الآية، فقيل: المعنى: إن المؤمنين لم يكونوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم، بل ينبغي أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة تتفقه تلك الطائفة، ثم ترجع تعلم القاعدين، فيكون النفير على هذا نفير تعلم، والطائفة يقال على الواحد فما زاد، قالوا: فهو دليل على قبول خبر الواحد، وعلى هذا حملها الشافعي وجماعة، وقالت طائفة: للجهاد وفرقة تقعد تتفقه في الدين، فإذا جاءت الطائفة التي نفرت فقهتها القاعدة وعلمتها ما أنزل من الدين والحلال والحرام .

وعلى هذا فيكون قوله: "ليتفقهوا" "ولينذروا" للفرقة التي نفرت منها طائفة، وهذا قول الأكثرين، وعلى هذا فالنفير نفير جهاد على أصله؛ فإنه حيث استعمل إنما يفهم منه الجهاد، وعلى القولين فهو ترغيب في التفقه في الدين وتعلمه وتعليمه؛ فإن ذلك يعدل الجهاد، بل ربما يكون أفضل منه، كما تقدم .

(وقوله) تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) أي: أعطوه (ليبيننه للناس) أي ليظهرنه بالإعلام والتعليم (ولا يكتمونه) قال: (وهو إيجاب للتعليم) ويسمى هذا بيان الاختبار، ومنه أيضا قوله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم .

وقال تعالى: ( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) قال: (وهو تحريم للكتمان، كما قال في الشهادة: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) وحقيقة الكتم ستر الشيء وتغطيته، وغلب في الحديث .

وأخرج الطبراني بإسناد لا بأس به، عن ابن عباس، رفعه: "من كتم علما يعلمه ألجم بلجام من نار" قال: هي الشهادة تكون عند الرجل يدعى إليها أو لا يدعى وهو يعلمها، فلا يرشد صاحبها إليها، فهذا هو العلم .

وأخرج أيضا من حديث سعيد بن الدخاس: "من علم شيئا فلا يكتمه".

(وقال) تعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ) وقال إنني من المسلمين .

قال الحسن: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله، فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد .

(وقال) تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة ) الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن اعلم أن المنتفع بآيات الله من الناس نوعان:

أحدهما: ذو القلب الواعي الذكي، الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه، فهذا لا يحتاج إلا إلى وصول الهدى إليه؛ لكمال استعداده وصحة فطرته، فإذا جاء الهدى سارع قلبه إلى قبوله، كأنه مكتوب فيه، وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل، كما هي حال الصديق رضي الله عنه .

والنوع الثاني: من ليس له هذا الاستعداد والقبول، فإذا ورد عليه الهدى أصغى إليه سمعه، وأحضر قلبه، وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله، وهذه طريقة أكثر المستجيبين، والأولون هم الذين يدعون بالحكمة [ ص: 105 ] وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة، فهؤلاء نوعا المستجيبين .

وأما المعارضون الدافعون للحق فنوعان:

نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن، فإن استجابوا وإلا فالمجالدة، فهؤلاء لا بد لهم من جدال أو جلاد، ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الأقسام، كما بين ذلك قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك الآية. وأما أهل الجلاد فهم الذين أمر الله تعالى بقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .

وأما من فسر قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة إنها القياس البرهاني، والموعظة الحسنة القياس الخطابي وجادلهم بالتي هي أحسن القياس الجدلي - فهذا ليس من تفسير الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة التفسير، بل هو تحريف لكلام الله تعالى، وحمل له على اصطلاح المنطقية، وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية والمعتزلة، والقرآن بريء من ذلك كله، منزه عن هذه الهذايانات .

(وقال) تعالى: ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) الحكمة في معارف الشرع اسم للعلوم المدركة بالعقل، وقد أفرد ذكرها في عامة القرآن عن الكتاب، فجعل الكتاب اسما لما لا يدرك إلا من جهة النبوة، والحكمة لما يدرك من جهة العقل، وجعلا منزلين، وإن إنزالهما من الله تعالى، وقد يكونان مختلفين، وجمع بينهما في الذكر لحاجة كل واحد منهما إلى الآخر، فقد قيل: لولا الكتاب لأصبح العقل حائرا، ولولا العقل لم ينتفع بالكتاب. وقيل: الكتاب بمنزلة اليد، والحكمة بمنزلة الميزان، ولا تعرف المقادير إلا بهما؛ ولذلك عبر عن الحكمة بالميزان في قوله تعالى: الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .

ولا يبلغ الحكمة إلا أحد رجلين: إما مهذب في فهمه، موفق في فعله، ساعده معلم ناصح، وكفاية وعمر. وإما إلهي، يصطفيه الله، فتفتح عليه أبواب الحكمة بفيض إلهي، ويلقي إليه مقاليد جوده، فيبلغه ذروة السعادة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .




الخدمات العلمية