الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه ولا رخصة في وصفه إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى : " قل الروح من أمر ربي "، والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق ، وأما الأوهام والخيالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات وتتزلزل في ذكر مبادئ وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقها ، فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك النور في عالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال ، وقد خلق الله تعالى الخلق أطوارا فكما يدرك الصبي المحسوسات ، ولا يدرك المعقولات ؛ لأن ذلك طور لم يبلغه بعد ، فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه بعد ، وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية ، فيها يلحظ جناب الحق بنور الإيمان واليقين وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد ، بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولجناب الحق صدر ، وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب : وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني ، فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية ؛ ولذلك قيل : من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء ، ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل المعنى المسمى روحا عند الطبيب ، بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك ، بالإضافة إلى الملك ، فمن عرف الروح الطبي فظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك ؛ فظن أنه رأى الملك ، ولا يشك في أن خطأه فاحش ، وهذا الخطأ أفحش منه جدا ، ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف ، وبها تدرك مصالح الدنيا ، عقولا قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئا ولكن ذكر نسبته وفعله ، ولم يذكر ذاته ، أما نسبته ؛ ففي قوله تعالى : من أمر ربي "، وأما فعله فقد ذكر في قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ولنرجع الآن إلى الغرض فإن المقصود ذكر نعم الله تعالى في الأكل ، فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى في آلات الأكل .

التالي السابق


(وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى) المكتومة التي لا يطلع عليها إلا هو (لم نصفه ولا رخصة في وصفه إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى: "قل الروح من أمر ربي"، والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها) ولا تمثيلها (بل تتحير فيها عقول [ ص: 116 ] أكثر الخلق، وأما الأوهام والخيالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات) فإنه من إدراكات السمع والبصر قاصر عنه، (وتتزلزل في ذكر مبادي وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقهما، فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك في عالم النبوة والولاية) به تنكشف حقائقه (ونسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال، وقد خلق الله تعالى الخلق أطوارا) مختلفة (فلا يدرك الصبي المحسوسات، ولا يدرك المعقولات؛ لأن ذلك طور لم يبلغه بعد، فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه، وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية، فيها يلحظ جناب الحق) تعالى (بنور الإيمان واليقين) . ثم يختلف إدراك ذلك بحسب قوة الإيمان وضعفها (وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد، بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد) وفي نسخة: إلا واحدا بعد واحد، (ولجناب الحق) تعالى (صدر، وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب) أي: واسع (وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني، فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة استحال أن يصل إلى الميدان) وأن يكون من رجاله (فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية؛ ولذلك قيل: من لم يعرف نفسه) معرفة كلية (لم يعرف ربه) وهو المفهوم من قولهم: من عرف نفسه عرف ربه (وأنى يصادف هذا في خزانة الأطباء، ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل بالمعنى الذي يسمى روحا عند الطبيب، بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة) في الميدان (التي يحركها صولجان الملك، بالإضافة إلى الملك، فمن عرف الروح الطبيبي وظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك؛ فظن أنه رأى الملك، ولا يشك في أنه خطأ فاحش، وهذا الخطأ أفحش منه جدا، ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف، وبها تدرك مصالح الدنيا، عقولا قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم) كما ورد ذلك في الخبر (ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئا لكن ذكر نسبته وفعله، ولم يذكر ذاته، أما نسبته؛ ففي قوله تعالى:) "قل الروح (من أمر ربي"، وأما فعله فقد ذكره في قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) .

(ولنرجع الآن إلى الغرض فإن المقصود ذكر نعم الله تعالى في الأكل، فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى في آلات الأكل) وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية