الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق ، والشرك الخفي ، وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه ، وإخفاء عيبه ؟! عنه وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر .

وفي رواية : إلا قدر فواق ناقة فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار وقدر فواق الناقة لا يحتمل عملا : بالجوارح إنما هو بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء فكيف يؤمن ذلك ؟! فإذن أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ، ورجاؤه وغلبة الرجاء في غالب الناس ، تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة ؛ ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى عليهم ، فقال تعالى : يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال عز وجل : ويدعوننا رغبا ورهبا وأين مثل عمر رضي الله عنه فالخلق الموجودون في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل ، وقطع الطمع من المغفرة ، فيكون ذلك سببا للتكاسل عن العمل ، وداعيا إلى الانهماك في المعاصي ، فإن ذلك قنوط وليس بخوف ، إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ، ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا : ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط .

وقد قال يحيى بن معاذ من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده بمحض الرجاء : تاه في مفازة الاغترار ، ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة الأذكار

وقال مكحول الدمشقي من عبد الله بالخوف فهو حروري ، ومن عبده بالرجاء فهو ، مرجئ ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق ومن عبده بالخوف ، والرجاء ، والمحبة فهو موحد

فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور ، وغلبة الخوف هو الأصلح ، ولكن قبل الإشراف على الموت ، أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل ، فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف ، فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته .وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه ، ويحبب إليه ربه ، الذي إليه ، رجاؤه ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محبا لله تعالى ليكون محبا للقاء الله تعالى ، فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه .

التالي السابق


(فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق، والشرك الخفي، وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه، وإخفاء عيبه منه؟! وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة) حتى يقال إنه من أهل الجنة، وفي لفظ: (حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر- وفي رواية: إلا قدر فواق ناقة- فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار) ، هكذا هو في القوت وقد سبق ذكره قريبا. وقال العراقي: روى مسلم من حديث أبي هريرة: إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار. وللطبراني في الأوسط: سبعين سنة، وإسناده حسن، وللشيخين في أثناء حديث لابن مسعود: إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع... الحديث، ليس فيه زمن العمل بخمسين سنة، ولا ذكر شبر ولا فواق ناقة، اهـ .

قلت: وتمام حديث أبي هريرة: فيجعله من أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم الله عمله بعمل أهل الجنة فيجعله الله من أهل الجنة فيدخله الجنة. ورواه كذلك أحمد.

(وقدر فواق ناقة) وكذا الشبر (لا يحتمل عملا) أي: لا يتأتى في هذا المقدار من الوقت شيء من عمل الجسم (بالجوارح إنما هو) من أعمال القلوب بمشاهدة العقول (بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء وذلك هو شرك التوحيد الذي لم يكن في الحياة الدنيا شاهدا له، ظهر له بيان ذلك عند كشف الغطاء، فغلب عليه وصفه، وبدت فيه حاله، كما تظهر له أعماله السيئة، فيستحملها قلبه أو يتعلق بها لسانه أو يخامرها وجده، فتكون هي خاتمته التي تخرج عليها روحه وذلك هو سابقته التي سبقت له من الكتاب، كما قال تعالى: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ، (فكيف يؤمن ذلك؟!) .

(فإذا أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاؤه، وأما غلبة الرجاء في غالب الناس يكون مستنده الاغترار، وقلة المعرفة؛ ولذلك جمع الله بينهما في وصف من أثنى عليهم، فقال تعالى: يدعون ربهم خوفا وطمعا ) والطمع هو الرجاء (وقال عز وجل: ويدعوننا رغبا ورهبا ) والرغبة من الرجاء، والرهبة من الخوف. (وأين مثل عمر رضي الله عنه) في قوته وثباته (فالخلق الموجودون في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف) على الرجاء (بشرط أن لا يخرجهم) إلى اليأس من روح الله (وترك العمل، وقطع الطمع من المغفرة، فيكون ذلك سببا للتكاسل عن العمل، وداعيا إلى الانهماك في المعاصي، فإن ذلك قنوط) وهو كفر (وليس بخوف، وإنما الخوف هو الذي يحث على العمل، ويكدر جميع الشهوات) ويستأصلها ( ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا) أي: الميل إليها (ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور) وإذا تحقق ذلك (فهو الخوف المحمود) شرعا (دون حديث النفس الذي لا يؤثر الكف) عن المنهيات (والحث) على المأمورات (ودون اليأس الموجب للقنوط، وقد قال يحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى: (من عبد الله تعالى بمحض الخوف) دون الرجاء (غرق في بحار الأفكار) ؛ إذ الخوف يحملها إلى كل واد (ومن عبده بمحض الرجاء) أي: دون الخوف (تاه في مغاور الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة الأذكار) نقله صاحب القوت .

(وقال مكحول الدمشقي) هكذا سائر النسخ، ولفظ القوت: وقال مكحول النسقي في معناه إلا أنه أفرط فيه: (من عبد الله بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق) كذا في النسخ، [ ص: 220 ] ولفظ القوت: فهو جهمي أي يتجهم عليه بالمقال، ويتجاوز الحد في الأفعال (ومن عبده بالخوف، والرجاء، والمحبة فهو موحد) . شبه هذه المقامات من معاني المقالات للمبالغة من طريق المعنى لا على التحقيق؛ أي إنه إذا انفرد بحال منها لابد وأن يخرج من معيار علم أو عن سنة أو معروف أو معتاد مألوف، فإذا جمعها فقد استقام على العلم والسنة وهو وصف العالم العارف الظاهري الباطني .

(فإذا لابد من الجمع بين هذه الأمور، وغلبة الخوف هو الأصلح، ولكن) عند صحة طواعيته، وذلك إلى (قبل الإشراف على الموت، أما عند الموت) وشدة المرض (فالأصلح) في حقه تغليب جانب (الرجاء وحسن الظن) بالله تعالى (لأن الخوف) كما سبق (جار مجرى السوط الباعث على العمل) بالجوارح (وقد انقضى وقت العمل، فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل) ولا يتأتى منه (ثم) هو لا (يطيق أسباب الخوف، فإن ذلك يقطع نياط قلبه) وهو بكسر النون عرق معلق به القلب (ويعين على تعجيل موته. وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه، ويحبب إليه ربه، الذي إليه رجاؤهن، ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محبا لله تعالى ليكون محبا للقاء الله تعالى، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، كما ورد ذلك في الخبر وتقدم .




الخدمات العلمية