الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والجملة فيه أنه يمين لا كالأيمان ويد لا كالأيدي وإصبع لا كالأصابع فرأى القلم محركا في قبضته فظهر له عذر القلم فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم فقال : جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما محركها القدرة لا محالة فسافر السالك إلى عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين فقالت : إنما أنا صفة فاسأل القادر إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات وعند هذا كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فغشيته هيبة الحضرة فخر صعقا يضطرب في غشيته فلما أفاق قال سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك فأقول اشرح لي صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك فنودي من وراء الحجاب إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه وما قاله لك فقله فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال : سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فقال إلهي إن لم يكن للسان جراءة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك ؟ فنودي إياك أن تتخطى رقاب الصديقين فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أما سمعته يقول العجز عن درك الإدراك إدراك فيكفيك نصيبا من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا فعند ذلك رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها : اقبلوا عذري فإني كنت غريبا حديث العهد بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته مرددون في قبضته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلما ذكر ذلك في عالم الشهادة استبعد منه ذلك وقيل له : كيف يكون هو الأول والآخر وهما وصفان متناقضان وكيف يكون هو الظاهر والباطن فالأول ليس بآخر والظاهر ليس بباطن ؟ فقال : هو الأول بالإضافة إلى الموجودات إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحدا بعد واحد وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة ، فيكون ذلك آخر السفر فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود ، وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس ، ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت فهذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل أعني من انكشف له أن الفاعل واحد .

التالي السابق


(والجملة فيه أنه يمين كالأيمان ويد لا كالأيدي وأصبع لا كالأصابع) هذا هو مذهب السلف من أكابر المحدثين والفقهاء والمتكلمين قالوا: إن اليدين والاستواء والوجه واليمين والجنب والقدم وأمثالها كلها صفات حقيقة قائمة بذات الحق - جل جلاله - كما يقول به سائر أهل السنة في الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام من أنها صفات حقيقية وقائمة بذات الحق تعالى، ومن هذا يقولون: إن سمعه لا كسمعنا وبصره لا كبصرنا وكلامه لا ككلامنا. وقال الإمام أحمد: أن يديه ليست كيدينا ولكن له يدان هم صفتان حقيقيتان، وكذا قال في الوجه ووافقهم الإمام أبو الحسن الأشعري في هذا المعنى لكنه في بعضها دون جميع المتشابهات، وقد تقدم التفصيل في ذلك في شرح قواعد العقائد .

(فرأى القلم محركا في قبضته فظهر له عذر القلم فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه فقال: جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة) والملك (وهو الحوالة على القدرة إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما محركها القدرة لا محالة فسافر) السالك (إلى عالم القدرة ورأى فيها من العجائب ما استحقر عندها ما) رأى (قبله سألها عن تحريك اليمين فقالت: إنما أنا صفة فسل القادر إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات) فإن الموصوفات هي التي قامت بها تلك الصفات (وعند هذا كاد) السالك (أن يزيغ) أي: يميل (ويطلق بجرأة لسان السؤال) فأدركته العناية الإلهية (فثبت بالقول الثابت) في قلبه (ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة) الربانية (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فغشيته هيبة الحضرة) فلم يستطع القيام معها (فخر صعقا) مندهشا (يضطرب في غشيته تلك مدة) كما جرى ذلك لموسى - عليه السلام - حين سأل الرؤية .

(فلما أفاق) من غشيته (قال سبحانك ما أعظم شأنك) وأجل سلطانك (تبت إليك) أي: رجعت عما كنت عازما عليه في السؤال عن هذه الحقائق (وتوكلت عليك) فلا يتم مقام التوكل إلا بعد ملاحظة عظمة شأنه وألوهيته والانصراف إليه بكليته (وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك) أشار بالأول إلى المقام الموسوي إذ قال عقب إفاقته: سبحانك تبت إليك، وبالثاني إلى المقام المحمدي إذ قال أعوذ بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك (وما لي ألا أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك) فأقول (رب اشرح لي صدري لأعرفك) كما ينبغي أن تعرف، فالنور إذا دخل الصدر انشرح له وانفتح فانكشفت له أسرار المعرفة (واحلل العقدة من لساني) أي: رقة تمنع عن كمال الإفصاح والإفهام (لأثني عليك) بما أنت أهله وهذا أيضا إشارة إلى المقام الموسوي (فنودي من وراء الحجاب إياك أن تطمع في الثناء) أي: في الوصول إلى غاياته (وتزيد على سيد الأنبياء) محمد - صلى الله عليه وسلم - (بل ارجع إليه) واقتد به (فما آتاك فخذه وما نهاك) عنه (فانته عنه) كما قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .

(وما قاله فقله) فما بلغ أحد مقاما ما بلغه هو وليس لغيره إلا اتباعه كما في الخبر: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي (فإنه) لما لاحظ المعنى الجامع لصفات الألوهية كاد أن يحصل له الدهش والتحير فأدركته المنح حتى تحقق في تحيره ولذلك [ ص: 410 ] (ما زاد في هذه الحضرة على أن قال: سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) .

فهو المثني على نفسه وهو المثنى عليه أزلا وأبدا وجميع المحامد راجعة إليه (فقال) السالك (إلهي إن لم تكن للسان جراءة في الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك؟) أي: في منتهى درجتها (فنودي إياك أن تتخطى رقاب الصديقين فارجع إلى الصديق الأكبر) - رضي الله عنه - (فاقتد به) واسلك سبيله (فإن أصحاب سيد الأنبياء) - صلى الله عليه وسلم - (كالنجوم المشرقة) في السماء (بأيهم) أيها المسافرون في سلوك طريق الحق (اقتديتم اهتديتم) إلى من إليه السلوك .

يشير إلى ما رواه عبد بن حميد من حديث ابن عمر: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، ورواه غيره من حديث أبي هريرة وأسانيده ضعيفة، وقال أحمد: لا يصح وقال البزار: منكر، وقال البيهقي: في كتاب الاعتقاد رويناه في حديث موصول بإسناد غير قوي في حديث آخر منقطع، قال والحديث الصحيح يؤدي بعض معناه، وهو حديث أبي موسى المرفوع: النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهبت أتى أمتي ما يوعدون.

(أما سمعته يقول العجز عن درك الإدراك إدراك فيكفيك نصيبا من حضرتنا أن تعرف أنك محروم وعن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا) قال المصنف في المقصد الأسنى: فإن قلت: فما نهاية معرفة العارفين بالله تعالى؟ فأقول: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة هي أنهم لا يعرفونه وأنهم لا يمكنهم البتة معرفته وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله تعالى، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا فقد عرفوه، أي: بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته، وهو الذي أشار إليه الصديق الأكبر حيث قال: العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث: قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط بها وحدك، فإذا لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة، وأما اتساع المعرفة فإنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته.

(فعند هذا رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري إني كنت غريبا حديث العهد بالدخول في هذه البلاد و) في الكلام السائر (لكل داخل دهشة) وتمامه فتلقوه بمرحبا (فما كان إنكاري عليكم إلا من قصور وجهل) مني (والآن قد صح عني عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته مردودون في قبضته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلما ذكر ذلك في عالم الشهادة) الذي هو أول عوالم السير (استبعد منه ذلك وقيل له: كيف يكون هو الأول والآخر وهما وصفان متناقضان وكيف يكون هو الظاهر والباطن والأول ليس بالآخر والظاهر ليس بباطن؟ فقال: هو الأول بالإضافة إلى الموجودات إذ صدر منه الكل على الترتيب واحدا بعد واحد وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل) ومن مقام إلى مقام (إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة، فيكون ذلك آخر السفر فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود، وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين إدراكه بالحواس الخمس، ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت) .

قال المصنف في المقصد الأسنى: اعلم أن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء وإن الآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه بالإضافة إلى شيء واحد أولا آخرا جميعا، بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود ولاحظت سلسلة الموجودات المترتبة، فالله تعالى بالإضافة إليها إذ الموجودات كلها استفادت الوجود منه [ ص: 411 ] وأما هو فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت مراتب السائرين إليه فهو آخر، إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته والمنزل الأقصى هي معرفة الله سبحانه فهو آخر بالإضافة إلى السلوك إليه أول بالإضافة إلى الوجود فمنه المبدأ أولا وإليه المرجع والمصير آخرا .

وأما الظاهر والباطن فهما أيضا من المضافات فإن الظاهر يكون ظاهرا من وجه وباطنا من وجه آخر ولا يكون من وجه واحد ظاهرا وباطنا بل يكون ظاهرا من وجه وبالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه وبالإضافة إلى إدراك فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله سبحانه باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال، ظاهر إن طلب من خزانة العقل بطريق الاستدلال .

فإن قلت: أما كونه باطنا بالإضافة إلى إدراك الحواس فظاهر وأما كونه ظاهرا بالإضافة إلى إدراك العقل فغامض إذ الظاهر ما لم يتمار فيه ولا يختلف الناس في إدراكه وهذا مما وقع الريب الكثير للخلق فكيف يكون ظاهرا؟ فاعلم أنه إنما يخفى مع ظهوره لشدة ظهوره، فظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره، وكل ما جاوز من حده انعكس على ضده، فسبحانه ما احتجب عن الخلق بنوره وخفي عليهم بشدة ظهوره، فهو الظاهر الذي لا أظهر منه، والباطن الذي لا أبطن منه، ولا تعجبن من هذا في صفات الله تعالى فإن المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن فإنه ظاهر إن استدل عليه بأفعاله المرتبة المحكمة، باطن إن طلب من إدراك الحس، فإن الحس فإنما يتعلق بظاهر بشرته وليس الإنسان إنسانا بالبشرة المرئية منه بل لو تبدلت تلك البشرة بل سائر أجزائه فهو هو والأجزاء المتبدلة، ولعل أجزاء كل إنسان بعد كبر سنه غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره، فإنها تحللت بطول الزمان وتبدلت بأمثالها بطريق الاغتذاء، وهويته لم تتبدل فتلك الهوية باطنة عن الحواس ظاهرة للعقل بطريق الاستدلال عليها بآثارها وأفعالها .

(فهكذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل أعني من انكشف له أن الفاعل واحد) وحيث انتهى بنا الكلام إلى هنا فلنورد ما اعترض على المصنف في هذا السياق من أوله إلى هنا .



قال المعترض في جملة كلامه: وكيف يتصور مخاطبة العقلاء للجمادات والجمادات للعقلاء وبماذا تسمع تلك المخاطبة؟ أبحاسة الأذن أم بسمع القلب؟ وما الفرق بين القلب المحسوس والقلم الإلهي؟ وما حد عالم الملك وعالم الجبروت وعالم الملكوت؟ وما معنى أن الله تعالى خلق آدم على صورته؟ وما الفرق بين الصورة الظاهرة التي معتقدها يكون مشبها صرفا والصورة الباطنة التي يكون معتقدها منزها فحلا؟ وما معنى فاطو الطريق فإنك بالوادي المقدس طوى؟ ولعله ببغداد وأصفهان أو نيسابور أو طبرستان في غير الوادي الذي سمع فيه موسى - عليه السلام - كلام الله تعالى، وما معنى فاستمع بسر قلبك لما يوحى؟ أهل يكون سماع القلب بغير سره؟ وكيف يسمع ما يوحى من ليس بنبي أذلك على طريق التعميم أم على طريق التخصيص؟

ومن له بالتسلق إلى مثل ذلك المقام حتى يسمع أسرار الإله؟ وإن كان على سبيل التخصيص فالنبوة ليست محجورة على أحد إلا من قعد عن سلوك تلك الطريق، وما يسمع في النداء إذا سمع، هل اسم موسى أو اسم نفسه؟ وما معنى الأمر للسالك بالرجوع ونهيه أن يتخطى رقاب الصديقين؟ وما الذي أوصلهم إلى مقامهم وهو في المرتبة الثالثة وهي توحيد المقربين؟ وما معنى انصراف السالك بعد وصوله إلى ذلك الرفيق الأعلى وإلى أين واجهته في الانصراف وكيف صفة انصرافه؟ وما الذي منعه من البقاء في الذي وصل إليه وهو أرفع من الذي خلفه؟

وأين هذا من قول أبي سليمان الداراني المذكور في غير الإحياء: لو وصلوا ما رجعوا ما وصل من رجع؟

وقد أجاب المصنف عن هذه الأسئلة في الإملاء بما نصه:

أما خطاب العقلاء للجمادات فغير مستنكر، قديما ندب الناس وسألوا الأطلال واستخبروا الآثار وقد جاء في أشعار العرب وكلامهم كثيرا وفي الحديث: اسكن حراء فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان.

وقال بعضهم: سل الأرض تخبر عمن شق أنهارها وفجر بحارها وفتق أهواءها ورتق أجوافها وأرسى جبالها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا، وإنما الذي يتوقف على الأذهان ويتحير في قبوله السامعون ويتعجب منه كلام الجمادات والحيوانات الصامتات، ففي هذا وقع الإنكار واضطرب النظار وكذب في تصحيح وجوده ذوو السمع من أهل الاعتبار ولكن لتعلم أن [ ص: 412 ] تلقي الكلام للعقلاء ممن لم يعهد عنه في المشهور يكون على جهات:

من ذلك سماع الكلام الذاتي كما يتلقى أهل النطق إذا قصدوا إلى نظم اللفظ وذلك أكثر ما يكون للأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم أجمعين - في بعض الأوقات كحنين الجذع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان بمكة حجر يسلم عليه قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - في طريقه .

ومنها تلقي الكلام في حس السامع من غير أن يكون له وجود في خارج الحس ويعتري هذا في سائر الحواس كمثل ما يسمع النائم في منامه من مثال شخص من غير مثال والمثال المرئي للنائم ليس له وجود في غير سمعه، وأما ما يجده غير النائم في اليقظة فمنها خاصة وعامة والعامة تشهد بصحة الخاصة كما جاء في الحديث عن اليهود آخر الزمان الحجر ينادي المسلم: يا مسلم خلفي يهودي اقتله. فإن لم يخلق الله تعالى للحجر حياة ونطقا ويذهب عنه معنى الحجرية أو يوكل بالحجر من يتكلم عنه ممن يستتر عن الأبصار في العادة من الملائكة والجن أو يكون ككلام يخلقه الله تعالى في آذان السامع ليفيده العلم باختفاء اليهودي حتى يقتله .

وكما قال في العرض الأكبر إذا نودي فيه باسم كل واحد على الخصوص في الخلائق مثل المنادي اسم به كثير، وقد قالت العلماء: إنه لا يسمع النداء في ذلك الجمع إلا من نودي فيحتمل من ذلك النداء يخلق للمنادى في حاسة أذنه ليتحرك إلى الحساب وحده دون من يشاركه في اسمه، ولا يكون نداء من خارج والأمثلة كثيرة في الشرع، وفيما سمعت منه .

ومنها تلقي الكلام في العقل وهو المستفاد بالمعرفة المسموع بالقلب المفهوم بالتقدير عن اللفظ المسمى بلسان الحال، كما قال قيس:


وأجهشت للتو باد حين رأيته وكبر للرحمن حين رآني فقلت: له أين الذين عاهدتهم
حواليك في عيش وخفض جنان فقال مضوا واستودعوني بلادهم
ومن ذا الذي يبقى على الحدثان



وفي أمثال العوام: قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ فقال الوتد للحائط: سل من يدقني، فلو كانت العبارة يتأتى منها ما عبرت إلا بما قد استعير لها، وعلى هذا المعنى حمل كثير من العلماء قوله - عز وجل - عن السماء والأرض حين قالتا: أتينا طائعين وقوله - عز وجل - عن السماوات والأرض والجبال: فأبين أن يحملنها وأشفقن منها .

ومنها تلقي الكلام في الخيال مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه عباءتان قطوانيتان يلبي وتجيبه الجبال، والله يقول: لبيك يا يونس، فقوله: "كأني" يدل على أنه تحلى حالة سبقت لم يكن لها في الحال وجود ذاتي; لأن يونس - عليه السلام - قد مات وتلك الحالة منه قد سلفت، وفي هذا الحديث إخبار عن الوجود الخيالي في البصر والوجود الخيالي في السمع .

ومنها تلقي الكلام بالشبه وهو أن يسمع السامع كلاما وأصواتا من شخص حاضر فيلقي عليه شبه غيره بما غاب عنه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في صوت أبي موسى الأشعري وقد سمعه يترنم بالقرآن: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود. ومزامير آل داود قد عدمت وذهبت وإنما شبه صوته بها، وكما إذا سمع المريد صوت المزمار وعود فجاء على غير قصد بتخييل صرير أبواب الجنة وتشبيهها بها فجاء صوته من ذلك .

هذه مراتب الوجود فأنت إذا أحسنت التصرف بين إثباتها ولم يعترك غلط في بعضها ببعض ولا اشتبهت عليك وسمعت بمن نظر بمشكاة نور الله تعالى إلى الكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر فقال له: ما بال وجهك؟ وكان أبيض مشرقا مونقا والآن قد ظهر عليه السواد فلم سودت وجهك فقال الكاغد: ما أنصفتني في هذه المطالبة فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعا في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلما وعدوانا فقال: ما أنصفت، فقال: صدقت، ثم أنت إذا سمعت أمثال هذه المراجعات أعمل الفكر وحدد النظر وحل الكلام إلى أجزائه التي انتظم منها جملة ما بلغك فتسأل عن معنى الناظر ومعنى نور الله سبحانه وما سبب أن لم يعرف الناظر الكتابة والمكتوب وبأي لسان خاطب الكاغد وهو ليس من أهل النطق وفي ماذا صدق الناظر الكاغد ولم صدقه بمجرد قوله دون دليل ولا شاهد فيبدو لك هنا أن الناظر هو ناظر القلب فيما أورده عليه الحس والمشكاة استعارة نقلت من مشكاة الزجاجة التي أعمرت بسراج النار إلى حبر المعرفة الملقب بسر القلب تشبيها بها; لأنها مسرجة الرب تعالى يشعلها بنوره، ونوره المذكور ههنا عبارة عن صفاء الباطن واشتعال السر بطلوع نيران [ ص: 413 ] كتب المعارف المذهبة بإذن الله تعالى ظلم جهالات القلوب ووجه إضافته إلى الله تعالى على سبيل الإشارة بالذكر لأجل التخصيص بالشرف، والكاغد والحبر كناية عن أنفسهما لا عن غيرهما وجعلهما مبدأ طريقه وأول سلوكه إذ هما في عالم الملك والشهادة الذي هو محل جملة الناظر في حال نظره .

وأما سبب أنه لم يعرف الكتابة ولا المكتوب فلأجل أنه كان أميا لا يقرأ الكتاب الصناعي وإنما يروم معرفة قراءة الخط الإلهي الذي هو أبين وأدل على ما يفهم منه، وأما مخاطبة الناظر للكاغد وهو جماد فقد سبق الكلام على مثله ومراجعة الكاغد له فعلى قدر حال الناظر إن كان مرادا فيتلقى الكلام في الحس بما ينبه على المطلوب من الحق، وهو من الإلقاء والروع فيودعه الحس المشترك المحفوظ فيه على الإنسان صور الأشياء المحسوسة، وإن كان مريدا فيتلقاه بلسان الحال المسموع بسمع القلب بواسطة المعرفة والعقل .

وتصديق الناظر للكاغد في عذره وإحالته على الحبر لم يكن بمجرد قوله بل بشهادة أولي الرضا والعدل وهو البحث والتجربة وهذا سبيلك إلى اليد وهو آخر ما سئل عن أجزاء عالم الملك .

وأما ما يسمعه في عالم الجبروت وذلك من القدرة المحدثة إلى العقل والعلم الموجودين في الإنسان فمستقره في القوة الوهمية المدركة جميع ما يستدعي وجوده جسما، ولكن قد يعرض له أن يكون في جسم كما تدرك السخلة عداوة الذئب وعطف أمها فتتبع العطف وتنفر عن العداوة .

وأما ما يسمعه في حد عالم الملكوت وذلك من العلم الإلهي إلى ما وراء ذلك مما هو داخل فيه معدود منه فسر القلب الذي يأخذ به عن الملائكة ويسمع ما بعد مكانه ودق معناه وغرب عن القلوب من جهة الفكر تصوره فأما أي شيء حقائق هذه المذكورات وما كنه واحد منها على نحو معرفتك لأجزاء عالم الملك والشهادة، فذلك من علم لا ينتفع بسماعه مع عدم الشهادة، والله قد عرفك بأسمائها فإن كنت مؤمنا فصدق بوجودها على الجملة كعلمك أنك لا تخبر بتسميات ليس لها مسميات إلى أن يلحقك الله تعالى بأولي المشاهدات ويخصك بخالص الكرامات، ومن كفر فإن الله غني حميد .



فصل

والفرق بين القلم المحسوس في عالم الملك وبين القلم الإلهي في عالم الملكوت أن القلم المحسوس كما علمته مجسما بطيء الحركة بالفعل سريع الانتقال بالهلاك مختلفا عن مثله في الظاهر محمولا تحت قهر سلطان الآدمي الضعيف الجاهل في أكثر أوقاته، مصرفا بين أحوال متنافية كالعلم والجهل والظلم والعدل والشك والصدق .

وأما القلم الإلهي فعبارة عن خلق الله تعالى في عالم الملكوت مختص بخلاف خصائص الجواهر الحية الكائنة في عالم الملك يرى أنه من أوصاف ما سمي به القلم المحسوس كلها مصرف بيمين الخالق بحكم إرادتنا على ما سبق به علمه في أزل الأزل وإنما سمي بهذا الاسم لأجل شبهه لعمل ما يشتهى به، غير أنه لا يكتب إلا حقا بحق .

والفرق بين يمين الآدمي ويمين الله - عز وجل - أن اليمين الآدمي كما علمت مركب من: عصب استعصى بقاؤها، وعضل تعضل أدلاؤها، وعظام يعظم بلاؤها، ولحم ممتد وجلد غير ذي جلد موصولة بمثلها في الضعف والانفصال ملقبة باليد وهي عاجزة عن كل حال، ويمين الله تعالى عند بعض أهل التأويل هي عبارة عن قدرته وعند بعضهم صفة لله تعالى غير القدرة، وليست بجارحة ولا جسم عند آخرين إنها عبارة عن خلق الله تعالى وهي واسطة بين القلم الإلهي الناقش للعلوم المحدثة وغيرها وبين قدرته التي هي صفة لها صرف اليمين الكاتبة بالقلم المذكور بالخط الإلهي المثبوت على صفحات المخلوقات الذي ليس بعربي ولا عجمي يقرؤه الأميون إذا شرحت له صدورهم ويستعجم على القارئين إذا كانوا عبيد شهواتهم، ولم يشارك يمين الآدمي إلا في بعض الاسم لأجل الشبه اللطيف الذي بينهما في الفعل، وتقريبا إلى كل ناقص الفهم عساه يعقل ما أنزل على رسل الله من الذكر .



فصل

وحد عالم الملك ما ظهر للحواس ويكون بقدرة الله - عز وجل - بعضه من بعض وصحبه التغير، وحد عالم الملكوت ما أوجد الله سبحانه من غير زيادة ولا نقصان منه، وحد عالم الجبروت هو ما بين العالمين مما أشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت .



فصل

ومعنى أن الله خلق آدم على صورته فذلك على ما جاء في الأحاديث، وللعلماء فيه وجهان: فمنهم من يروي للحديث سببا وهو أن رجلا ضرب غلامه فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهاه وقال: إن الله خلق آدم على [ ص: 414 ] صورته وتأولوا عود الضمير على المضروب، وعلى هذا لا يكون للحديث مدخل في هذا الموضع ويكون الإيماء به إلى غير هذا المعنى المذكور في سبب الحادث، وإثباته في غير موطن دليل السبب المنقول مما يعزو ويعسر فليبق السبب على حاله ولينظر في وجه للحديث غير هذا مما يحتمله ويحسن الاحتجاج به في هذا الموطن .

والوجه الآخر أن يكون الضمير في صورته عائدا على الله سبحانه ويكون في معنى الحديث على صورة هي مضافة إلى الله سبحانه، وهذا المضروب على صورة آدم فإذا هو العبد المضروب على الصورة المضافة إلى الله - عز وجل - ثم ينحصر بيان معنى الحديث ويتوقف على بيان معنى الإضافة وعلى أي جهة يحتمل في الاعتماد العلمي على الله سبحانه ففيها وجهان:

أحدهما: أن يكون إضافة ملك الله تعالى كما يضاف العبد والبيت والناقة واليمين على أحد الأوجه .

والوجه الآخر: أن تكون إضافة تخصيص به - عز وجل - فمن حملها على إضافة الملك له رأى أن المراد بصورته هو العالم الأكبر بجملته لكنه مختصر صغير فإن العالم إذا فصلت أجزاؤه وفصلت أجزاء آدم - عليه السلام - بمثله وجدت أجزاء آدم مشابهة للعالم الأكبر، وإذا شابهت جملة أجزاء جملة أخرى فالجملتان بلا شك متشابهتان فمن نظر إلى تحليل صورة العالم الأكبر فقسمه إلى أنحاء من القسمة وقسم آدم - عليه السلام - كذلك فوجد كل نحوين منهما يشتبهان فمن ذلك انقسم قسمين: ظاهر محسوس كعالم الملك، والثاني: باطل معقول كعالم الملكوت .

والإنسان كذلك انقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم وسائر أنواع الجواهر المحسوسة وإلى باطن كالروح والعقل والعلم والإرادة والقدرة وأشباه ذلك، وقسمة أخرى وذلك أن العالم قد انقسم بالعوالم إلى عالم الملك وهو الظاهر المحسوس وإلى عالم الملكوت وهو الباطن في العقول، وإلى عالم الجبروت وهو المتوسط الذي أخذ بطرف كل عالم منها وهو الإنسان انقسم إلى ما يشابه هذه القسمة، فالمشابه لعالم الملك الأجزاء المحسوسة وقد علمتها، والمشابه لعالم الملكوت فمثل الروح والعقل والقدرة والإرادة وأشباه ذلك، والمشابه لعالم الجبروت كالإدراكات بالحواس والقوة الموجودة بأجزاء البدن .

وقسمة أخرى وذلك أن العالم انحل إلى ما علم من أجزائه بالاستقراء فرأس الإنسان يشابه سماء العالم من حيث إن كل ما علا فهو سماء وحواسه تشابه حواس الكواكب والنجوم من حيث إن الكواكب أجسام مشفة تستمد من نور الشمس فتضيء لها والحواس أجسام لطيفة تستمد من الروح فتضيء بذلك المدركات، وروح الإنسان مشابهة للشمس .

فيضيء العالم وهو نباته وحركة حيوانه وحياته فيما يظهر بتلك الشمس، وكذلك روح الإنسان به حصل في الظاهر عن أجزاء بدنه ونبات شعره وخلق حيوانه، وجعلت الشمس وسط العالم تطلع بالنهار وتغرب بالليل وجعلت الروح وسط العالم وهي تغرب بالنوم وتطلع باليقظة، ونفس الإنسان تشابه القمر من حيث إن القمر يستمد من الشمس ونفسه تستمد من الروح، والقمر خالف الشمس والروح خالف النفس، والقمر آية ممحوة والنفس مثلها، ومحو القمر في أن لا يكون ضياؤه منه ومحو النفس في أن لا يكون عقلها منها، ويعتري الشمس والقمر وسائر الكواكب كسوف ويعتري النفس والروح وسائر الحواس غيب وذهول، وفي العالم نبات ومياه ورياح وجبال وحيوان وفي الإنسان نبات وهو الشعر ومياه وهي العروق والدموع والريق والدم، وفيه جبال وهي العظام، وحيوان وهي هوام الجسم، فحصلت المشابهة على كل حال، ولما كانت أجزاء العالم كثيرة ومنها ما هي لنا غير معروفة ولا معلومة كان في جميعها تطويل وفيما ذكرنا يحصل به لذوي العقول تنبيه .

فهذا آخر الكلام في أحد وجهي الإضافة الذي في ضمير صورته، والوجه الآخر هو أن من حمل الإضافة إلى الله تعالى على معنى التخصيص به فذلك لأن الله عز وجل - أنبأنا بأنه حي قادر سميع بصير علم مريد متكلم فاعل، وخلق آدم عليه السلام - حيا قادرا سميعا بصيرا عالما مريدا متكلما فاعلا، وكانت لآدم عليه السلام - صورة محسوسة مكونة مخلوقة مقدرة بالفعل وهي لله سبحانه وتعالى مضافة باللفظ، وذلك أن هذه الأسماء لم تجتمع مع صفات آدم إلا في الأسماء التي هي عبارة بلفظ فقط لا يفهم من ذلك نفي الصفات، فليس هو مرادنا تباين ما بين الصورتين بأبعد وجوه الإمكان حتى لم تجتمع مع صفات الله عز وجل وتطلق عليها حالة الوجود .

[ ص: 415 ] فافهم هذا فإنه من أدق ما يقرع سمعك ويلج قلبك ويبهر عقلك، ولهذا قيل لك: فإن كنت تعتقد الصورة الظاهرة ومعناه إن حملت إحدى الصورتين على الأخرى في الوجود تكن مشبها مطلقا ومعناه لتتيقن أنك من المشبهين لا من المنزهين فقر على نفسك بالتشبيه معتقدا ولا تنكره، كما قيل: كن يهوديا وإلا فلا تلعب بالتوراة، أي: تتلبس بدينهم وتريد أن لا تنسب إليهم، وتعتكف على قراءة التوراة ولا تعمل بها .

وإن كنت لا تعتقد الصورة فكن منزها فحلا مقدسا مخلصا أي: ليس تعتقد من الصورة المضافة إلى الله تعالى إلا الاسم والمعاني وتلك المعاني المسماة لا يقع إليه اسم الصورة .

وقد حفظ عن الشبلي كلام في معنى ما ذكرناه من هذا الوجه قولا بليغا مختصرا حين سئل عن معنى الحديث فقال: خلقه الله تعالى على معنى الأسماء والصفات لا على الذات، فإن قلت: هكذا قال ابن قتيبة في كتابه المعروف بتناقض الحديث حيث قال: صورة لا كالصورة، فلم أخذ عليه ذلك وأقيمت عليه الشناعة به واطرح قوله ولم يرض به أكثر العلماء وأهل التحقيق؟ فاعلم أن الذي ارتكبه ابن قتيبة - رحمه الله تعالى - نحن أشد إعراضا منه وأبعد الناس عن تسويغ قوله وليس هو الذي ألممنا به وأفدناك به بحول الله وقوته، بل يدل منك إنك لم تفهم غرضنا وذهلت عن عقل مرادنا حين لم تفرق بين قولنا وبين ما قاله ابن قتيبة، ألم نخبرك أن أثبتنا الصورة في التسميات وهو أثبتها في حالة الذات، والذي يغلب على الظن في ابن قتيبة - رحمه الله تعالى - أنه لم يقرع سمعه هذه الدقائق التي أشرنا إليها وأخرجناها إلى حيز الوجود بتأييد الله تعالى بالعبارة عنها، وإنما ظهر له شيء لم يكن له به إلف فتحير وعلاه الدهش فتوقف بين ظاهر الحديث الذي عند ذوي القصور تشبيه وبين التأويل لم ينفه، فأثبت المعنى المرغوب عنه وأزال نفي ما خاف من الوقوع فيه فلم يأت له اجتماع ما رام ولا نظام ما اقترف، فقال هو صورة لا كالصورة، ولكل ساقطة لاقطة فتبادر الناس إلى الأخذ عنه .



فصل

ومعنى فاطو الطريق فإنك بالوادي المقدس طوى، أي: دم على ما أنت عليه من البحث والطلب، فإنك على هداية ورشد، والوادي المقدس عبارة عن مقام الكلام مع الله تعالى في الوادي وإنما يقدس الوادي بما أنزل الله فيه من الذكر وسمع كلام الله سبحانه وأقيم ذكر الوادي مقام ما حصل فحذف المضاف وقام المضاف إليه وإلا فالمقصود منه ما نفي لا ما ظهر بالقول إذ المواضع لا تأثير لها وإنما هي ظروف .



فصل

ومعنى: فاستمع بسر قلبك لما يوحى إليك فلعلك تجد على النار هدى ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك الأعلى، فرغ قلبك لما يرد عليك من فوائد المزيد ومواريث الصدق وثمار المعارف وأرباح سلوك الطريق وبشارات قرب الوصول، وسر القلب كما تقول أذن الرأس وسمع الأذن، وما يوحى أي: ما يرد من الله - عز وجل - بواسطة ملك أو إلقاء في روع أو مكاشفة بحقيقة أو ضرب مثل مع العلم بتأويله، ولعل حرف ترج، والمعنى: إن لم ترد آفة تقطعك عن سماع الوحي من إعجاب بحال وإضافة دعوى إلى النفس أو قنوع بما وصلت إليه واستبداد به عن غيره .

وسرادقات المجد هي حجب الملكوت وما نودي به موسى عليه السلام - هو علم التوحيد الذي وقعت به العبارة اللطيفة عنه بقوله: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فالمنادى باسمه أزلا وأبدا هو اسم موسى لا اسم السالك لأنه موجود في كلام الله تعالى في أزل الآزال قبل أن يخلق موسى، وكلام الله صفة له لا تتغير كما لا يتغير هو وقد زل قزم وعظم افتراؤهم حين حملوا صدور هذا القول عن اعتقاد اكتساب النبوة وعياذا بالله من أن يحتمل هذا القول ما حملوا من المذهب السوء، وهم يعرفون أن كثيرا ممن يكون بحضرة ملك من الملوك الدنيوية وهو يخاطب إنسانا آخر قد ولاه ولاية كبيرة وفوض إليه عملا عظيما وحباه حباء خطيرا وهو يناديه باسمه ويأمره بما يمتثل من أمره .

ثم إن السامع للملك الحاضر غير المولى لم يشارك المولى والمخلوع عليه والمفوض إليه في شيء مما ولي وأعطي ولم يجب له بسماعه ومشاهدته أكثر من حظوة القربة وشرف الحضور ومنزلة المكاشفة من غير الوصول إلى درجة المخاطب بالولاية والمفوض إليه الأمر كذلك هذا السالك المذكور إذا واصل في طريقه ذلك بحيث يصل بالمكاشفة والمشاهدة واليقين التام الذي يوجب المعرفة والعلم بتفاصيل العلوم فلا يمتنع أن يسمع لغيره ما يوحى من غير أن يقصد هو بذلك إذ هو محل سماع الوحي على الدوام وموضع الملائكة [ ص: 416 ] وكفى بها إنها حضرة الربوبية وموسى - عليه السلام - لم يستحق الرسالة ولا النبوة ولا استوجب التكليم وسماع الوحي مقصودا بذلك بحلوله في هذا المقام الذي هو المرتبة الثالثة فقط .

بل قد استحق ذلك بفضل الله تعالى حين خصه بمعنى آخر يربي على ذلك المقام أضعافا يجاوز المرتبة الرابعة; لأن آخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء، وموسى - عليه السلام - نبي مرسل مقامه أعلى بكثير مما نحن آخذون في أطرافه; لأن هذا المقام الذي هو المرتبة الثالثة ليس من غايات مقام الولاية بل هو أول مباديها أقرب منه إلى غاياتها، فمن لم يفهم درجات المقامات وخصائص النبوات وأحوال الولايات كيف يتعرض للكلام فيها والطعن على أهلها؟ هذا لا يصلح إلا لمن لا يظن أنه مؤاخذ بكلامه ومحاسب بظنه ويقينه مكتوبة عليه خطراته محفوظة عليه لحظاته محصاة منه يقظاته وغفلاته فما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .

فإن قلت: أراك قد أوجبت له سماع نداء الله تعالى ونداء الله كلامه والله تعالى يقول: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فقد نبه أن تكليم الله تعالى لمن كلمه من الرسل إنما هو على سبيل المبالغة في التفضيل وهذا لا يصلح أن يكون لغيره ممن ليس بنبي ولا رسول فنقول إذا قيدنا التشعيب وقصدنا درء الشك العارض في مسالك الحقائق فنقول ليس في الآية ما يرد ما قلناه ولا يكسره فما أوجبنا أن يكلمه الله قصدا ولا يتحراه بالخطاب عمدا وإنما قلنا إنه يجوز أن يسمع ما يخاطب الله - عز وجل - غيره ممن هو أعلى منه فليس من سمع كلام الإنسان مثلا مما يكلم به غير السامع يقال إنه كلمه .

وقد حكي أن طائفة من بني إسرائيل سمعوا كلام الله الذي خاطب به موسى - عليه السلام - حين كلمه، ثم إذا ثبت ذلك لم تجب لهم درجة موسى - عليه السلام - ولا المشاركة في نبوته ولا رسالته على أن نقول: نفس ورود الخطاب إلى السامعين من الله - عز وجل - لا يمكن الاختلاف فيه، فيكون النبي المرسل يسمع كلام الله الذاتي القديم بلا حجاب في السمع ولا واسطة بينه وبين القلب ومن دونه يسمعه على غير تلك الصورة مما يلقى في روعه وبما ينادى به في سمعه أو سره أو أشباه ذلك مما ذكر أن قوم موسى - عليه السلام - حين سمعوا كلام الله تعالى مع موسى أنهم سمعوا أصواتا كالناقور وهو القرن .

فإذا صح ذلك فبتباين المقامات اختلف ورود الخطاب فموسى - عليه السلام - سمع كلام الله بالحقيقة التي هي صفة بلا كيف ولا صورة نظم بحروف وأصوات والذين كانوا معه أيضا سمعوا صوتا مخلوقا جعل لهم علامة ودلالة عليه كما تسمى التلاوة وهذه الحروف المكتوبة بها القرآن كلام الله - عز وجل - إذ هي دلالة عليه .

فإن قلت: فما ينفي على السامع إذا سمع كلام الله تعالى يستفيد به معرفة وحدانيته وفقه أمره ونهيه وفهم مراده وحكمه بما يلحقه العلم الضروري، فما أرى فاته النبي المرسل إلا بأن شغل بإصلاح الخلق دونه ولو كان عوضا منه أجزأ عنه وقام مقامه، فاعلم أن هذا الذي أوجب عثورك وداوم زللك وإعراضك عن العلوم بالجهل وعلى الحقائق بالمخايل أنت بعيد عن غور المطالب قعيد في شرك المعاطب فقيد صوب الصواب عنيد عند صحب الصاحب الذي استحق به الناظر السالك الواصل إلى المرتبة الثالثة سماع نداء الله تعالى معنى ومقام وحال وخاصة أعلى من تلك الأول وأجل وأكبر وبينهما ما بين من استحق المواجهة بالخطاب والقصد وبين من لا يستحق أكثر من سماعه حين يخاطب به غيره، هذا مع الإشارة باختلاف ورود الخطاب إليهما مما يوجب ويقرر تباين ما بينهما، فإن فهمت الآن وإلا فدعني لا تدر بحالي .

فإن قيل: ألم يقل الله تعالى: فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وسماع كلام الله تعالى بحجاب أو بغير حجاب وعلم ما في الملكوت ومشاهدة الملائكة وما غاب عن المشاهدة والحس من أجل الغيوب فكيف يطلع عليها من ليس برسول؟

قلنا: في الكلام تقديم وتأخير وحذف يصح على صحة تقدير الشرع الصادق والمشاهدة الضرورية وهو أن يكون معناه إلا من ارتضى من رسول ومن اتبع الرسل بإخلاص واستقامة أو عمل بما جاء به; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وهو ينفي ما غاب عنه أن ينكشف إليه، وقال: إن يكن منكم محدثون فعمر. أو كما قال. وقال: المؤمن ينظر بنور الله وفي القرآن العزيز: قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فعلم ما غاب عن غيره من إمكان إتيان ما وعده به وزاد أنه قدر عليه [ ص: 417 ] ولم يكن نبيا ولا رسولا، وقد نبأ الله سبحانه عن ذي القرنين من إخباره عن الغيب وصدقه فيه حين قال: فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وإن كان وقع الاختلاف في نبوة ذي القرنين فالإجماع على أنه ليس برسول، وهو خلاف المشروط في الآية .

وإن أراد أحد المدافعة بالإخبار لما أخبر به ذو القرنين وما ظهر على يد الذي عنده علم الكتاب وأراد أن يروجه على غر لا يفرق بين السنة والحقائق فيما يصنع فيما جرى للخضر وما أنبأ الله سبحانه وتعالى وأظهر عليه من العلوم الغيبية وهو أبعد أن يكون نبيا فليس برسول على الوفاق من الجميع، والله تعالى يقول: إلا من ارتضى من رسول فدل على أن في الآية حذفا يضاف معناه إلى ما ظهر من الكلام فكان سعد - رضي الله عنه - يرى الملائكة - عليهم السلام - وهو غيب الله، وأعلم أبو بكر - رضي الله عنه - بما في البطن، وهو من غيب الله وشواهد الشرع كثيرة جدا تعجز العقول وتبهر المعاند .

ويحتمل أن يكون المراد من الآية بالرسول المذكور فيها ملك الوحي بواسطته تنزل العلوم وتنكشف الغيوب فمتى لم يرسل الله ملكا بإعلام غيب إما بخطاب مشافهة أو إلقاء معنى في روع أو ضرب مثل في يقظة أو منام لم يكن إلى علم الغيب سبيل ويكون تقدير الآية: فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول أن يرسله إلى من يشاء من عباده في يقظة أو منام فإنه يطلع على ذلك أيضا وتكون فائدة الإخبار بهذا في الآية الامتنان على من رزقه الله تعالى علم شيء من مكنوناته وإعلامه أنه لم يصل إليها بنفسه لا بمخلوق سواه إلا بالله - عز وجل - حين أرسل إليه الملك بذلك وبعثه إليه حتى يبرأ المؤمن من حوله ومن قوته ويرجع إلى الله سبحانه وحده ويتحقق أنه لا يرد عليه شيء من علم أو معرفة أو غير ذلك إلا بإرادته ومشيئته .

ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون - والله أعلم - "إلا من ارتضى من رسول" يريد من سائر خلقه وأصناف عباده ويكون معنى "من رسول" على يد رسول من الملائكة .



فصل

ومعنى ولا تتخطى رقاب الصديقين وما الذي أوصله إلى مقامهم أو جاوز به وهو في المرتبة الثالثة حال المقربين، فاعلم أنه ما وصل حيث ظننت فكيف يجاوزه وإنما خاصة من في مرتبة الصديقية عدم السؤال لكثرة التحقيق بالأحوال، وخاصة من هو في مرتبة القرب كثرة السؤال طمعا في بلوغ الآمال وأمثالهما فيما أشير إليه مثال إنسانين دخلا في بستان وأحدهما يعرف جميع نبات البستان ويتحقق أنواع تلك الثمار ويعلم أسماءها ومنافعها فهو لا يسأل ليصل إلى علم الباقي، وكذلك حين من تكلمنا عليه حين أكثر السؤال عساه يتجاوز سؤاله حاله ويتخلف مقامه إلى ما هو أعلى منه وكان غير مراد ذلك الوقت أو أبد الآبد .

وتلك العلوم لا تنال بالكسب، وإنما تنال بالمنح الإلهية فقيل له لا تتخطى رقاب الصديقين بالسؤال فذلك مما لا يخطى به وليس هو من الطرق الموصلة إلى مقامهم فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به في أحواله وسيرته فعساك ترزق مقامه، فإن لم يكن فتبقى على حال القرب وهو تلو الصديقية هذا معناه .



فصل

ومعنى انصراف السالك بعد وصوله إلى الرفيق الأعلى أنه لما وصل إليه بسؤال صرف إلى ما لاقى به من الأحوال ليحكم ما بقي عليه من الأعمال كما قال - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله أن يعلمه من غرائب العلم: اذهب فاحكم ما هنالك، وكذلك أعلمك من غرائب العلم، فأما صفة انصرافه فإنه نهض بالبحث ورجع بالتذكير وفوائد المزيد .

ووجه آخر إن لم يستطع المقام في ذلك الموضع بعد وصوله إليه فذلك لتعلق جزء المعرفة بالبدن ومسكنه عالم الملك ولم يفارقه بعد الموت وطول الغيب عنه لا يمكن في العادة ولا أمكن لهلك الجسم وتفرقت الأوصال، والله تعالى أراد عمارة الدنيا قدر ما سبق في علمه ولم تجد لسنة الله تبديلا، ومعنى قول أبي سليمان الداراني: لو وصلوا ما رجعوا ما رجع إلى حالة الانتقاص من وصل إلى حالة الإخلاص والذي طمع الناظر في الحصول فيه بسؤاله وتماديه إلى حال القرب منه لم يصلح لذلك ولم يضف له ولم يخلص في أعماله. انتهى لفظ الإملاء، ولنعد إلى شرح كلام المصنف .




الخدمات العلمية