الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت فقد : انتهى هذا التوحيد إلى أنه يبتنى على الإيمان بعالم الملكوت فمن لم يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه فأقول : أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت وهم الذين حصروا العلوم في الحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا تدرك بالحواس الخمس فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس فإن قال : وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس ولا أعلم شيئا سواه فيقال : إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس فإنهم قالوا ما نراه لا نثق به فلعلنا نراه في المنام فإن قال وأنا من جملتهم فإني شاك أيضا في .

المحسوسات فيقال هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه فيترك أياما قلائل وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء هذا حكم الجاحد .

وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضا توحيدا إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين فيقال له على حد عقله .

إله العالم واحد والمدبر واحد إذ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة .

التالي السابق


(فإن قلت: فقد انتهى هذا التوحيد) المشار إليه (إلى أنه ينبني على الإيمان بعالم الملكوت فمن لا يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه فأقول: أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال إنكارك [ ص: 418 ] لعالم الملكوت كإنكار السمنية) بضم السين المهملة وفتح المخففة (لعالم الجبروت) وهم فرقة تعبد الأصنام وتقول بالتناسخ وتنكر العلم بالأخبار .

(وهم الذين حصروا العلوم في الحواس وأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا تدرك بالحواس الخمس) قيل نسبة إلى سومنات بلدة من الهند على غير قياس كما في المصباح، ونسبة إلى صنم كانوا يعبدونه اسمه كذلك وسميت البلدة به (ولازموا حضيض عالم الشهادة) وأنكروا تحقيق الحقائق واتصافها بالوجود في نفس الأمر (فإن قال: وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس ولا أعلم شيئا سواه فيقال: إنكارك لما شاهدناه مجاوزا للحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس) وهم طائفة من حكماء اليونان ينكرون حقائق الأشياء ويزعمون أنه ليس ههنا ماهيات مختلفة وحقائق متمايزة فضلا عن اتصافها بالوجود، وإثبات بعض إلى بعض على وجوه شتى بل كلها أوهام لا أصل لها وسوفسطا كلمة يونانية معناها طالب الحكمة (فإنهم قالوا ما نراه لا نثق به فلعلنا نراه في المنام) شبه الخيالات الباطلة (فإن قال أنا منهم) ومن جملتهم (فإني شاك في المحسوسات أيضا فيقال هذا شخص) قد (فسد مزاجه) واختل نظام تركيبه (وامتنع علاجه فيترك) ولا يعالج (فما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء) وفي حكم هذين إن كان يرفض الشهادة القوية والمشاهد الجلية لشبهة فاسدة ومغلطة كامدة فيكون من العنادية وهم أسوأ حالا من السمنية والسوفسطائية وأمثل طريقة من هؤلاء الأدرية حيث توقفوا عند اشتباه الأمر لديهم والتباس الحال عليهم لكنهم لا يخلون عن الجحود أيضا .

(هذا حكم الجاحد وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم) لجفاء في طبعه وبلادة في فهمه (فطريق السالكين فيه أن ينظروا إلى عينه التي بها يشاهد عالم الملكوت فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود) أو أصفر منعه من النظر (يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا) أولا (بتنقيته) وإزالته بنحو القدح وغيره مثل (اشتغال الكحال) الحاذق (بالأبصار الظاهرة) بمداواتها بالأكحال اللطيفة (فإذا استوى بصره) وقوي نوره (أرشد إلى الطريق ليسلكه) بلا مانع (كما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخواص أصحابه) أزال بنظره إليهم العلل الباطنة فأشرقت الأنوار في صدورهم وأعينهم ثم أرشدهم (فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك السبيل الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد) كما سبق من قول الشاعر:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد



(كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في علم الشهادة أيضا توحيدا إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين) وإن السفينة تفسد برئيسين، ومن المحال عقلا اتفاق الحاكمين المشتركين على تدبير واحد لا يعارض بعضهم بعضا (فيقال له العالم واحد والمدبر) في الكائنات (واحد إذ لو كان فيهما إلا الله لفسدتا) أي: لغالب بعضهم بعضا ففسد نظام العوالم بسببه ولم يبق على طريقة واحدة، لكن الشمس والقمر تجريان بحسبان واحد والجوار الخنس والبروج من الكواكب وسائر النجوم لم تختل أحوالها فيما خلقت له، ولم تختل مراكزها ومسالكها والسماء قائمة قياما لا تختلف، والسحاب يجري بالماء لمنافع أهل الأرض في أوقات الحاجة إليه والحبوب والثمار تخرج على وتيرة واحدة والبشر كلهم وكل جنس من الحيوان على ما هو عليه من الصور المخصوصة بكل جنس، فانتفاء لازم التعدد وهو الفساد معلوم قطعا ويقينا فالملزوم وهو التعدد منتف قطعا ويقينا فهذه الأدلة عقلية محضة على وحدانية الباري جل جلاله (فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه فهذا الطريق اللائق بقدر [ ص: 419 ] عقله) ولا يجدي معه إلا ذلك فيضل عقله إلى إدراكه بطريق العبارة تكميلا للحجة .

(وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم) وذلك فيما ورد: نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم. رواه الديلمي من حديث ابن عباس (ولذلك نزل القرآن على لسان العرب وعلى حد عادتهم في المحاورة) وهو يشير إلى أن الملازمة في الآية عادية والحجة إقناعية على ما هو الأليق بالخطابيات، وقد سبق لهذا البحث إلمام بالتفصيل في شرح الكتاب الثاني عند ذكر برهان التمانع .




الخدمات العلمية