الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعمدة الاشتغال بالله عز وجل القلب فصواب الضعيف ادخار قدر حاجته كما أن صواب القوي ترك الادخار .

وهذا كله حكم المنفرد ، فأما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم ، وتسكينا لقلوبهم وادخار أكثر من ذلك مبطل للتوكل ؛ لأن الأسباب تتكرر عند تكرر السنين ، فادخاره ما يزيد عليه سببه ضعف قلبه ، وذلك يناقض قوة التوكل فالمتوكل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله تعالى ، واثق بتدبيره دون وجود الأسباب الظاهرة وقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعياله قوت سنة ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر له شيئا لغد ونهى بلالا عن الادخار في كسرة خبز ادخرها ليفطر عليها فقال : صلى الله عليه وسلم : أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا وقال صلى الله عليه وسلم : إذا سئلت فلا تمنع ، وإذا أعطيت فلا تخبأ اقتداء بسيد المتوكلين : صلى الله عليه وسلم : وقد كان قصر أمله بحيث كان إذا بال تيمم مع قرب الماء ، ويقول : ما يدريني لعلي لا أبلغه وكان صلى الله عليه وسلم : لو ادخر لم ينقص ذلك من توكله ؛ إذ كان لا يثق بما ادخره ، ولكنه عليه السلام ترك ذلك تعليما للأقوياء من أمته ، فإن أقوياء أمته ضعفاء ، بالإضافة إلى قوته ، وادخر عليه السلام لعياله سنة لا لضعف قلب فيه وفي عياله ولكن ليسن ذلك للضعفاء من أمته ، بل أخبر إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات ، فما أرسل رسول الله : صلى الله عليه وسلم : إلا رحمة للعالمين كلهم على اختلاف أصنافهم ودرجاتهم وإذا فهمت هذا علمت أن الادخار قد يضر بعض الناس ، وقد لا يضر ، ويدل عليه ما روى أبو أمامة الباهلي أن بعض أصحاب الصفة توفي فما وجد له كفن ، فقال : صلى الله عليه وسلم : فتشوا ثوبه فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره ، فقال : صلى الله عليه وسلم : كيتان وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالا ولا يقول ذلك في حقه ، وهذا يحتمل وجهين ؛ لأن حاله يحتمل حالين : أحدهما أنه أراد كيتين من النار ، كما قال تعالى تكوى : بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، وذلك إذا كان حاله إظهار الزهد والفقر والتوكل مع الإفلاس عنه فهو نوع تلبيس والثاني أن لا يكون ذلك عن تلبيس ، فيكون المعنى به النقصان عن درجة كماله ، كما ينقص من جمال الوجه أثر كيتين في الوجه ، وذلك لا يكون عن تلبيس ، فإن كل ما يخلفه الرجل فهو نقصان عن درجته في الآخرة ؛ إذ لا يؤتى أحد من الدنيا شيئا إلا نقص بقدره من الآخرة .

التالي السابق


(وعمدة الاشتغال بالله القلب فصواب الضعف) المضطرب (ادخار قدر حاجته) لإصلاح قلبه، وسكون نفسه عن الاضطراب والاستشراف وتفرق الهم (كما أن صواب القوي) الساكن المطمئن الصابر (ترك الادخار) ، وكل منهما متوكل ، (وهذا كله حكم المنفرد، فأما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم، وتسكينا لقلوبهم) ولوجود رضاهم عن الله -عز وجل- ولفقد همه بهم، ولسقوط حكمهم عنه؛ ليتفرغ لعبادة ربه، فهو فاضل في ادخاره، اتفقوا عليه؛ ولأنه في ذلك قائم بحكم ربه كراع لرعيته التي هو مسؤول عنها، حافظ لحدود الله التي استحفظه إياها بما حفظ الله له وعليه (وادخار أكثر من ذلك مبطل للتوكل؛ لأن الأسباب تتكرر عند تكرر السنين، فادخاره ما يزيد عليه سببه ضعف قلبه، وذلك يناقض قوة التوكل فالمتوكل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله تعالى، واثق بتدبيره دون وجود الأسباب الظاهرة) ناظر إليه في تصريفه معتمد عليه (وقد ادخر) سيد المرسلين (رسول الله صلى الله عليه [ ص: 504 ] وسلم لعياله قوت سنة) رواه الشيخان وقد سبق في كتاب الزكاة، (و) قد (نهى أم أيمن وغيرها أن تدخر له شيئا لغد) ، وقد سبق ذلك أيضا هناك، وأم أيمن اسمها بركة، وكانت حاضنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول لها: يا أمة، وكانت تتولى خدمته رضي الله عنها .

(ونهى بلالا) -رضي الله عنه- (عن الادخار في كسرة خبز) كان (ادخرها ليفطر عليها) .

قال العراقي: هذا لم أره، قلت: المعروف نهيه عن ادخار تمر كان ادخره (فقال -صلى الله عليه وسلم-: أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا) .

قال العراقي: رواه البزار من حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وبلال دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده صبر من تمر، فقال ذلك، ورواه أبو يعلى والطبراني وكلها ضعيفة اهـ .

قلت: لفظ البزار والطبراني من حديث ابن مسعود، دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على بلال وعنده صبر من تمر، فقال: "ما هذا يا بلال؟ فقال: يا رسول الله، ادخرته لك ولضيافتك، فقال: أما تخشى أن يفور لها بخار من جهنم أنفق يا بلال" فذكره .

ورواه العسكري في الأمثال من حديث عائشة، ولفظه: "أنفق بلالا"، ورواه البزار عن مسروق عن بلال مثله،، ورواه الطبراني من هذا الوجه، إلا أنه قال: يا بلال، ورواه أبو يعلى بلفظ: ولا تخافن بدل ولا تخش، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بأبسط مما هنا (وقال له: إذا سئلت فلا تمنع، وإذا أعطيت فلا تخبأ) .

قال العراقي: رواه الطبراني والحاكم من حديث أبي سعيد، وهو بقية حديث الق الله فقيرا، ولا تلقه غنيا، وقد تقدم اهـ .

(اقتداء بسيد المتوكلين -صلى الله عليه وسلم-) ولفظ القوت: ونهى بلالا عن الادخار لنفسه؛ لتقتدي به أهل المقامات، وقال له: إذا سئلت فلا تمنع، وإذا أعطيت فلا تخبأ، فهو إمام المقربين وذكرى للمتوكلين (وقد كان قصر أمله بحيث كان إذا بال تيمم مع قرب الماء، ويقول: ما يدريني لعلي لا أبلغه) .

قال العراقي: رواه ابن الدنيا في قصر الأمل من حديث ابن عباس بسند ضعيف اهـ .

ولفظ القوت: وروينا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض، وله بردان في الحف ينسجان، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- أقصر أملا من ذلك، كان يبول فيتيمم قبل أن يصل إلى الماء، فيقال له: إن الماء منك قريب، فقال: "وما يدريني لعلي لا أبلغه، ولكن فعله لئلا يهلك من طال أمله من أمته، فجعل يفعله نجاة ورحمة له"، فهذا يدلك على أن الادخار يتسع ويضيق على قدر مشاهدات العارفين من قبل أن الشريعة جاءت بالرخصة والعزيمة، والعزائم من الدين للأقوياء الحاملين والرخص من الدين للضعفاء المحمولين اهـ .

(وقد كان -صلى الله عليه وسلم- لو ادخر لم ينقص ذلك من توكله؛ إذ كان لا يثق بما ادخره، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- ترك ذلك تعليما للأقوياء من أمته، فإن أقوياء أمته ضعفاء، بالإضافة إلى قوته، وادخر -صلى الله عليه وسلم- لعياله) قوت (سنة لا لضعف قلب فيه وفي عياله) حاشاهم من ذلك، (ولكن ليس ذلك للضعفاء من أمته، بل أخبر أن الله تعالى يحب أن يؤتى رخصه،، كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي من حديث ابن عمر.

وقد تقدم (تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى) مرتبة (اليأس) من روح الله (والقنوط) من رحمة الله (فيتركون الميسور من الخير عليهم لعجزهم عن منتهى الدرجات، فما أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا رحمة للعالمين كلهم على اختلاف أصنافهم ودرجاتهم) .

وفي القوت: وكان سهل -رحمه الله تعالى- يقول: في تأويل الخبر أن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، قال: ما كان من أمر فخذ بالأوسع، وما كان من نهي فخذ بالأشد فيه، قال: وكان يضرب للمدخر مثلا في قصر الأمل وطوله، فيقول: مثل ما يترك الادخار مثل رجل يقول: أريد أن أخرج إلى الأبلة فيقال له: خذ رغيفا، فإن قال: أريد أن أخرج إلى العسكر قيل له: خذ أربعة أرغفة، قال: فكذلك ترك الادخار ينقص من فضائل الزاهدين بمقدار ما يمنع من حقيقة الزهد إلا للزهاد العارفين؛ لأنهم على عين اليقين قد أقيموا بشهادة عين التوحيد، فينظرون بنور الأولية والآخرية، فالموجودات عندهم عنده إذا كانت أيديهم يده، وقبضهم قبضه فهو وكيلهم، وهم خلفاؤه ينفقون مما جعلهم مستخلفين فيه، فهو مزيد لهم؛ لأن هذا مقام فوق الزهد قد جاوزه، فكيف يعتبر به، وهؤلاء لا يوصفون بكدر الخلق والمراآة فكيف يؤمرون بالتصفية والإخلاص؛ إذ لا يدخل عليهم الشرك لقيومية شهادة التوحيد بهم فهم بها قائمون، وما تارك المكاسب وقاطع التسبب ممن لا علوم له من الأولياء فإنهم تركوا الادخار؛ لأنه مقتضى حالهم، وفيه استقامة مقامهم وصفاء [ ص: 505 ] قلوبهم لخلوصهم ولأفراد سيرهم (فإذا فهمت هذا علمت أن الادخار قد يضر بعض الناس، وقد لا يضر، ويدل عليه ما روى أبو أمامة) صدي بن عجلان (الباهلي) -رضي الله عنه- (أن بعض أصحاب الصفة توفي فما وجد له كفن، فقال -صلى الله عليه وسلم-: فتشوا ثوبه) ففتشوه (فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره، فقال -صلى الله عليه وسلم- كيتان) .

قال العراقي: رواه أحمد من رواية شهر بن حوشب عنه، (وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالا ولا يقول ذلك في حقه، وهذا يحتمل وجهين؛ لأن حاله يحتمل حالين: أحدهما أنه أراد كيتين من النار، كما قال تعالى: فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، وذلك إذا كان حاله إظهار الزهد والفقر و) وصف (التوكل) وترك الادخار (مع الإفلاس عنه فهو نوع تلبيس) ، ولذلك شدد عليه، وغلظ بكيتي نار، وعلى هذا الوجه اقتصر صاحب القوت .

(والثاني أن لا يكون ذلك عن تلبيس، فيكون المعنى به النقصان عن درجة كماله، كما ينقص من جمال الوجه أثر كيتين في الوجه، وذلك لا يكون عن تلبيس، فإن كل ما يخلفه الرجل فهو نقصان عن درجته في الآخرة؛ إذ لا يؤتى أحد شيئا من الدنيا إلا نقص بقدره من الآخرة) ، وهذا الوجه هو اللائق بمقام الصحابة، كما لا يخفى .




الخدمات العلمية