الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي أخبار داود عليه السلام أن الله تعالى قال : يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني ، وجليس لمن جالسني ومؤنس ، لمن أنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن أطاعني ، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقي ، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني ؛ فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ، وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم ؛ فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي ، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي .

وروي عن بعض السلف أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين : إن لي عبادا من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك ، قال : يا رب : وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ، ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب ، فإذا جنهم الليل ، واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلي أقدامهم وافترشوا إلي وجوههم ، وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي ، فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك ، وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي ، أول ما أعطيهم ثلاث : أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني ، كما أخبر عنهم .

والثانية : لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللنها لهم .

والثالثة : أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه .

وفي أخبار داود عليه السلام : أن الله تعالى أوحى إليه : يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي ؟ قال : يا رب ، من المشتاقون إليك ؟ قال : إن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقا ينظرون إلي وإني لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي ، ثم أدعو نجباء ملائكتي ، فإذا اجتمعوا سجدوا لي ، فأقول : إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكني دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي ؛ فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي ، كما تضيء الشمس لأهل الأرض ، يا داود إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي ، فاتخذتهم لنفسي محدثي وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض ، وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقا ، قال داود يا رب أرني أهل محبتك ، فقال : يا داود ، ائت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول ، فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم : إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم : ألا تسألون حاجة ؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي ، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم .

فأتاهم داود عليه السلام : فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله : عز وجل : فلما نظروا إلى داود عليه السلام : نهضوا ليتفرقوا عنه ، فقال داود إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم ؛ فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض ، فقال داود إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم : ألا تسألون حاجة ؟ ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم ؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي ، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة قال : فجرت الدموع على خدودهم ؛ فقال شيخهم : سبحانك سبحانك ! نحن عبيدك وبنو عبيدك ؛ فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا ، وقال الآخر : سبحانك سبحانك ! نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك ، وقال الآخر : سبحانك سبحانك ! نحن عبيدك وبنو عبيدك أفنجترئ على الدعاء ؟! وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا .

وقال الآخر : نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بجودك .

وقال الآخر : من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترئ على الكلام من هو مشتغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك .

وقال الآخر : كلت ألسنتنا عن دعائك لعظم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك .

وقال الآخر : أنت هديت قلوبنا لذكرك فرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك .

وقال الآخر : قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك .

وقال الآخر : كيف يجترئ العبد على سيده إذ ؟! أمرتنا بالدعاء بجودك فهب لنا نورا نهتدي به في الظلمات من أطباق السموات .

وقال الآخر : ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا .

وقال الآخر: نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا .

وقال الآخر : لا حاجة لنا في شيء من خلقك ؛ فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك .

وقال الآخر : أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة .

وقال الآخر : قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لهم : قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم ؛ فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سربا ؛ فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالي ، فقال داود يارب ، بم نالوا هذا منك ؟ قال : بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله إلا من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي ؛ فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر .

بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي ، إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها ، وإن عطش أرويته ، وأذيقه طعم ذكري ، فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه ، لا يفتر عن الاشتغال بي ، يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته ؛ لأنه موضع نظري من بين خلقي ، لا يرى غيري ولا أرى غيره ، فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكري أباهي به ملائكتي وأهل سماواتي ، يزداد خوفا وعبادة ، وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا .

وفي أخبار داود أيضا قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي : ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم ؟! وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم ؟! وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي .

؟! وفي أخبار داود أيضا : إن الله تعالى أوحى إليه : تزعم أنك تحبني ، فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك ؛ فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب .

يا داود خالص حبيبي مخالصة ، وخالط أهل الدنيا مخالطة ، ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال ، أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به ، وأما ما أشكل عليك فقلدنيه حقا على أني أسارع إلى سياستك وتقويمك وأكون قائدك ودليلك ، أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد ، وإني قد حلفت على نفسي أني لا أثيب إلا عبدا قد عرفت من طلبته وأردته إلقاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني .

فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك ؛ فإني قد حلفت على نفسي أنه لا يطمئن عبد لي إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها أضعف الأشياء إلي لا تضاد عملك فتكون متعنيا ، ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حدا ؛ فليس لها غاية ، ومتى طلبت مني الزيادة أعطك ، ولا تجد للزيادة مني حدا ، ثم أعلم بني إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب ؛ فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر قلبك ولا تنظر بعينك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم عني فأمرحوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها ؛ فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين ؛ فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضا يمشون عليها .

يا داود لأن تخرج مريدا من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيدا ، ومن كتبته عندي جهيدا لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين .

، يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك ، لا تؤتين منها فأحجب عنك محبتي ، لا تؤيس عبادي من رحمتي اقطع شهوتك لي ، فإنما أبحت الشهوات لضعفة خلقي ، ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات ؟! فإنها تنقص حلاوة مناجاتي ، وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول أدنى ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني ؛ فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها .

يا داود لا تجعل بيني وبينك عالما يحجبك بسكره عن محبتي ، أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين ، استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم ، وإياك والتجربة في الإفطار ؛ فإن محبتي للصوم إدمانه .

يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك امنعها الشهوات ، أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة : إنما أداريك مداراة لتقوى على ثوابي إذا مننت عليك به وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي .

أوحى الله تعالى إلى داود يا داود ، لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي .

يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني ، فكيف إرادتي في المقبلين علي .

؟! يا داود ، أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني ، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني ، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على إثبات المحبة والشوق والأنس وإنما ، تحقيق معناها ينكشف بما سبق .

التالي السابق


(و) قد روينا (في أخبار داود -عليه السلام- أن الله تعالى أوحى إليه: يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق؟ قال: يا رب، من المشتاقون إليك؟ قال: إن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقا ينظرون [ ص: 606 ] إلي) وهي عين البصيرة (وإني لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي، ثم أدعو نجباء ملائكتي، فإذا اجتمعوا سجدوا لي، فأقول: إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكن دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي؛ فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي، كما تضيء الشمس لأهل الأرض، يا داود) إنه من ذكرني ذكرته، ومن أنس بي آنسته، ومن جلس إلي جالسته؛ لأني أنا أكرم الكرماء وأحكم الحكماء، يا داود (إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي، فاتخذتهم لنفسي محدثي) أصله محدثين، سقطت النون للإضافة ثم شددت الياء. لفظ القوت: محدثين، (وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض، وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقا، قال داود) -عليه السلام- (يا رب أرني أهل محبتك، فقال: يا داود، ائت جبل لبنان) ، وهو بضم اللام وسكون الموحدة كأنه مثنى لبن، جبل من جبال الشام شاهق (فإن فيه أربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول، فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم: إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم: ألا تسألوني حاجة؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم. فأتاهم داود -عليه السلام- فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله -عز وجل- فلما نظروا إلى داود -عليه السلام- نهضوا ليتفرقوا عنه) ، أي: لخوفهم عن شغلهم بغير الله تعالى (فقال داود) -عليه السلام- (إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم؛ فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض، فقال داود) -عليه السلام-: (إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم: ألا تسألوني حاجة؟ ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة) لولدها (قال: فجرت الدموع على خدودهم؛ فقال شيخهم) أي: كبيرهم في السن (سبحانك سبحانك! نحن عبيدك وبنو عبيدك؛ فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا، وقال الآخر: سبحانك سبحانك! نحن عبيدك وبنو عبيدك فامتن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك، وقال الآخر: سبحانك سبحانك! نحن عبيدك وبنو عبيدك فنجترئ على الدعاء؟! وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا، وقال الآخر: نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بجودك، وقال الآخر: من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترئ على الكلام من هو مشتغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك) ولفظ القوت: منك (وقال الآخر: كلت ألسنتنا عن دعائك لعظيم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك، وقال الآخر: أنت هديت قلوبنا لذكرك وفرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك، وقال الآخر: قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك، وقال الآخر: كيف يجترئ العبد على سيده؟! إذا أمرتنا بالدعاء بجودك فهب لنا نورا نهتدي به في الظلمات [ ص: 607 ] من أطباق السموات، وقال الآخر: ندعوك أن تقبل علينا وتديمه) ولفظ القوت: تزيده (عندنا، وقال الآخر: لا حاجة لنا في شيء من خلقك؛ فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك، وقال الآخر: نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا، وقال الآخر: أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة، وقال الآخر: قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك) فهذه أربعة عشر قولا (فأوحى الله تعالى إلى داود) -عليه السلام- (قل لهم: قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم؛ فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سربا؛ فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالي، فقال داود) -عليه السلام- (يا رب، بم نالوا هذا منك؟ قال: بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي) ولفظ القوت في مناجاتهم (وإن هذا منزل لا يناله إلا من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي؛ فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي، إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها، وإن عطش أرويته، وأذيقه طعم ذكري، فإذا فعلت له ذلك يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه، لا يفتر عن الاشتغال بي، يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته؛ لأنه موضع نظري من بين خلقي، لا يرى غيري ولا أرى غيره، فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكري أباهي) به (ملائكتي وأهل سمواتي، يزداد خوفا وعبادة، وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا) قال صاحب القوت بعد أن ساقه بطوله: فهذه مقامات المشتاقين في مراتب الشوق عن درجات الحب ومراقي المعارف والوجد؛ فكل مشتاق منهم نطق بحقيقة وجده وعبر عن وجهة حبه، دل بذلك على حاله وأخبر به عن سره، قال: وقد أحببت أن أشرح أحوالهم وأفصل مواجيدهم وأكشف سرائر مراتبهم وأبين رفع مكانهم وأوسع أنصبة تمكينهم، ويعز علي أن لا أستطيع ذلك، ولا يصلح رسمه في كتاب؛ لأن الكتاب يتداول والرسم يشغله، فتعذر ذلك علي لقلة إمكانه من قبل السامعين ولقلة أنصبة الواعين وخيفة إنكار ذوي العقول لحجبهم بالعقل؛ إذ هو حجاب اليقين، فإذا أخبرناهم بما ليس في وسعهم وكاشفنا بما قصرت عنه أوهامهم ولم يفكر فيه قط أفهامهم تفاوت الأمر عليهم فأوهم ضبطه وتشتت به قلوبهم فلم تجتمع على حفظه، ولكن الطريق القاصد إلى الله تعالى الموصل أهله إلى رضاه ومحبته للذين هما سبب هذا الفضل هو بغض الدنيا وأبنائها؛ فهو أصل كل مرتبة علية، كما أن حبها وحب أبنائها أصل كل نفاق وخطيئة، انتهى .

(وفي أخبار داود) -عليه السلام- (أيضا) : يا داود (قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي: ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم؟! وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم؟! وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي؟!) نقله صاحب القوت (وفي أخبار داود) -عليه السلام- (أيضا: إن الله تعالى أوحى إليه: تزعم أنك تحبني، فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك؛ فإن حبي وحبها لا يجتمعان [ ص: 608 ] في قلب) واحد (يا داود، خالص حبيبي مخالصة، وخالط أهل الدنيا مخالطة، ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال، أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به، وأما ما أشكل عليك فلقد نبه حقا على أني أسارع سياستك وتقويمك وأكون قائدك ودليلك، أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد، وإني قد حلفت على نفسي أني لا أنيب إلا عبدا قد عرفت من طلبته وأردته إلقاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني، فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك؛ فإني قد جعلت على نفسي أن لا يطمئن عبد إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها أضعف الأشياء التي لا تضاد عملك فتكون متعينا، ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حدا؛ فليس لها غاية، ومتى طلبت مني الزيادة أعطك، ولا تجد للزيادة مني حدا، ثم أعلم بني إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب؛ فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ولفظ القوت: على قلب امرئ (ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر) ولفظ القوت: بعين (قلبك ولا تنظر بعينيك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم عني فأمرحوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها؛ فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين؛ فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضا يمشون عليها، يا داود لأن تخرج مريدا من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيدا، ومن كتبته عندي جهيدا لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين، يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك، لا تؤتين منها فأحجب عنك محبتي، لا تؤيس عبادي من رحمتي أقطع شهوتك، فإنما أبعث الشهوات لضعفة خلقي، ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات؟! فإنها تنقص حلاوة مناجاتي، وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني؛ فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها، يا داود لا تجعل بيني وبينك عالما يحجبك بشكره عن محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين، استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم، وإياك والتجربة في الإفطار؛ فإن محبتي في الصوم إدمانه، يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك أمنعها الشهوات، أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة: إنما أداويك مداواة) ولفظ القوت: إنما أداريك مداراة (لتقوى على ثوابي إذا مننت به عليك وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي) قال صاحب القوت بعد أن ساقه بطوله: واعلم أن كل محب لله -عز وجل- فعن محبة الله سبحانه؛ لأن وجود العبد لمحبة الله تعالى علامة غيب محبة الله له يتبين ذلك الغيب من الله تعالى في الشهادة من عنده، ثم إن كل عبد أحبه الله فمن حيث أحبه الله، كما أنه عرفه من حيث واجهه، وكل من خدمه وتأدب بين يديه وعبده وتعبد له بمعنى من معاني العبادات، فذلك هو معنى ما أحبه وواجهه من معاني صفات لا يمكننا شرح ذلك، إلا أنه كما تقول في الدعاء إلى الله تعالى، والأدلة عليه والمطرقين للعباد إليه أن كل داع، ودليل دعاء الله فمن حيث دعاه الله تعالى إليه ودل على الله، فمن حيث دل عليه وطرق إليه سبيل العبادات وسهل منهاج القربات فمن حيث طرقه الله تعالى وسهل له السبيل إليه (وأوحى الله تعالى إلى داود) -عليه السلام- (يا داود، لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري [ ص: 609 ] لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟!) كذا في الرسالة للقشيري، وزاد غيره (يا داود، أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي) نقله صاحب القوت، وفيه أيضا في أخبار داود -عليه السلام- أن الله تعالى أوحى إليه: تزعم أنك منقطع إلي وتدعي عشقي وتسيء الظن بي، ألق كنفك بين يدي أكن لك؛ فإن محبتي من عبادي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون، مصابيح القلوب، كن في الدنيا وحدانيا ولا تهتم بالخبز وأنت تريدني، آثر هواي على هواك واغضب لي أشد مما تغضب لنفسك، وقال القشيري في الرسالة: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: خرج داود -عليه السلام- يوما إلى بعض الصحاري منفردا، فأوحى الله تعالى إليه: ما لي أراك يا داود وحدانيا؟! فقال: استأثر الشوق إلى لقائك على قلبي، فحال بيني وبين صحبة الخلق، فأوحى الله إليه: ارجع إليهم؛ فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتك في اللوح المحفوظ عبدا جهيدا شهيدا (فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على إثبات المحبة والشوق والأنس، وأما تحقيق معناها فقط انكشف مما سبق) والله الموفق .




الخدمات العلمية