الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها أن يكون مؤثرا ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه فيلزم مشاق العمل ويجتنب اتباع الهوى ويعرض عن دعة الكسل : ولا يزال مواظبا على طاعة الله ومتقربا إليه بالنوافل وطالبا عنده مزايا الدرجات : كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه ، وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار ، فقال : يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة : ومن بقي مستقرا على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه بل يترك المحب هوى نفسه ، كما قيل :


أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد .

بل الحب إذا غلب قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب ، كما روي أن زليخا لما آمنت وتزوج بها يوسف عليه السلام : انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى ، فكان يدعوها إلى فراشه نهارا فتدافعه إلى الليل ، فإذا دعاها ليلا سوفت به : إلى النهار ، وقالت : يا يوسف ، إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه فأما إذا ، عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه ، وما أريد به بدلا ، حتى قال لها : إن الله جل ذكره أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين ، فقالت : أما إذا كان الله تعالى أمرك بذلك وجعلني طريقا إليه ، فطاعة لأمر الله تعالى ؛ فعندها سكنت إليه فإذا من أحب الله لا يعصيه ولذلك قال ابن المبارك فيه :


تعصي الإله وأنت تظهر حبه     هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته     إن المحب لمن يحب مطيع

وفي هذا المعنى قيل أيضا :


وأترك ما أهوى لما قد هويته     فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي

وقال سهل رحمه الله تعالى : علامة الحب إيثاره على نفسك وليس كل من عمل بطاعة الله : عز وجل : صار حبيبا ، وإنما الحبيب من اجتنب المناهي وهو ، كما قال ؛ لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له ، كما قال تعالى : يحبهم ويحبونه ، وإذا أحبه الله تولاه ونصره على أعدائه ، وإنما عدوه نفسه وشهواته ، فلا يخذله الله ولا يكله إلى هواه وشهواته .

ولذلك قال تعالى : والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا .

التالي السابق


(ومنها [ ص: 619 ] أن يكون مؤثرا ما يحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه) لأن المحبة لا تدع لغير المحبوب موضعا في القلب، والإيثار وهو ميزان العقل والصدق للمحبة، فعلى قدر إيثارك له تعرف محبتك؛ فلا تغتر فإن المحبة خفية لا تعرف إلا بإيثارها، وقد أشار إلى ثمرة الإيثار بقوله (فيلزم مشاق العمل ويجتنب اتباع الهوى ويعرض عن دعة الكسل) أي: راحته (ولا يزال مواظبا على طاعة الله ومتقربا إليه بالنوافل) كما ورد به الخبر؛ لأن عمل المحبة لا يداخله سآمة ولا ملالة، وهو أحد الأسباب المشرفة لأعمال المحبين (و) لا يزال (طالبا عنده مزايا الدرجات) أي: خواصها (كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه، وقد وصف الله المحبين بالإيثار، فقال: يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) أي: احتياج وفقر، وقال صاحب القوت: أول علامات المحبة الإيثار للمحبوب على ذخائر القلوب؛ ولذلك وصف الله تعالى المحبين بالإيثار ووصف العارفين بذلك، فقال في صفة المحبين: يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم وقال في وصفه تعالى: تالله لقد آثرك الله علينا اهـ .

(ومن بقي مستمرا على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه) وإليه يشير قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه (بل يترك المحب هوى نفسه لهوى محبوبه، كما قيل:

أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد )

أورده القشيري في الرسالة، وقال صاحب القوت: أنشدني بعض الأشياخ لبعض المحبين:

ألذ جميل الصبر كيما ألذه وأهوى لمن أهواه تركا فأتركه

(بل الحب إذا غلب) على القلب وغمره (قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب، كما روي) في الأخبار السالفة (أن زليخا) بفتح فكسر؛ وهي امرأة العزيز (لما آمنت وتزوج بها يوسف -عليه السلام- انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى، فكان يدعوها إلى فراشه نهارا فتدافعه إلى الليل، فإذا دعاها ليلا سوفت به) أي: أخرت (إلى النهار، وقالت: يا يوسف، إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه، فما إذا عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه، وما أريد به بدلا، حتى قال لها: إن الله -عز وجل- أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين، فقالت: أما إذا كان الله أمرك بذلك وجعلني طريقا إليه، فطاعة لأمر الله تعالى؛ فعندها سكنت إليه) هكذا نقله صاحب القوت، فكأنما كانت طاعتها امتثالا لأمر الله تعالى، وهو دليل المحبة (فإذا من أحب الله لا يعصيه) بمخالفة أمره (ولذلك قال) عبد الله (بن المبارك) -رحمه الله تعالى- (فيه:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع )

وهي أبيات سائرة من جملة قصيدة له نسبها إليه غير واحد من العارفين، وروى البيهقي في الشعب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أنه قال: من أحب حبيبه لم يعصه، ثم قال:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه عار عليك إذا فعلت شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن أحب مطيع

ثم قال:

ما ضر من كانت الفردوس منزله ما كان في العيش من بؤس وإقتار
تراه يمشي حزينا خائفا شعثا إلى المساجد يسعى بين أطمار

ونسب السهروردي البيتين المذكورين إلى رابعة، وقد ظهر من مجموع كلامهم أن ابن المبارك ورابعة كانا ينشدان ذلك، وأصل الإنشاد لابن الحنفية، فتأمل (وفي هذا المعنى قيل أيضا)

وأترك ما أهوى لما قد هويته وأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي

[ ص: 620 ] هكذا أنشده صاحب القوت لبعضهم (وقال سهل) التستري (رحمه الله تعالى: علامة الحب إيثاره على نفسك) ولفظ القوت: الإيثار يشهد للحب؛ فعلامة حبه إيثاره على نفسك (و) قال: (ليس كل من عمل بطاعة الله -عز وجل- صار حبيبا، وإنما الحبيب من اجتنب المناهي) ولفظ القوت: وكل من اجتنب ما نهاه عنه صار حبيبا (وهو، كما قال؛ لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له، كما قال تعالى: يحبهم ويحبونه ، وإذا أحب الله عبدا تولاه ونصره على أعدائه، وإنما عدوه نفسه وشهواته، فلا يخذله ولا يكله إلى هواه وشهواته؛ ولذلك قال تعالى: والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) ولفظ القوت بعد أن أورد كلام سهل: وهذا كما قال؛ لأن المحبة تستبين بترك المخالفة ولا تستبين بكثرة الأعمال، كما قيل: أعمال البر يعملها البر والفاجر والمعاصي لا يتركها إلا صديق، وقيل: أفضل منازل الطاعات الصبر عن المعاصي، ثم الصبر على الطاعة، وإن الصبر على الطاعة يضاعف إلى سبعين ضعفا، والصبر على المصيبة يضاعف إلى سبعمائة كأنه أقيم مقام المجاهد في سبيل الله؛ لأن نفسه عدوة لله وله؛ فمخالفته هواها هو جهادها في سبيل الله؛ لأنه يقع اختيار من الله وضرورة لا من كلية النفس، فإذا ترك هواه فقد ترك نفسه، فأقل ماله في ذلك الزهد في الدنيا والجهاد في سبيل الله، ومن أجل ذلك ضوعفت حسناته إلى سبعمائة، ومن أجله ثبتت له المحبة لدخوله في أهل هذه الآية إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا وأيضا فقد اندرج الخوف في حاله، وهو مقام ثان يفضل جنة ثانية لغير المخالفة؛ فلذلك قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم قال: عيش نفوسهم الفاني، وهو عاجل حظوظهم من الشهوات .




الخدمات العلمية