الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم خوف السلو عنه فإن المحب يلازمه الشوق والطلب الحثيث فلا يفتر عن طلب المزيد ولا يتسلى إلا بلطف جديد ، فإن تسلى عن ذلك كان ذلك سبب وقوفه ، أو سبب رجعته .

والسلو يدخل عليه من حيث لا يشعر ، كما قد يدخل عليه الحب من حيث لا يشعر فإن هذه التقلبات لها أسباب خفية سماوية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها فإذا أراد الله المكر به واستدراجه أخفى عنه ما ورد عليه من السلو فيقف مع الرجاء ويغتر بحسن النظر أو بغلبة الغفلة ، أو الهوى أو النسيان ؛ فكل ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العلم والعقل والذكر والبيان وكما أن من أوصاف الله تعالى ما يظهر فيقتضي هيجان الحب ، وهي أوصاف اللطف والرحمة والحكمة فمن أوصافه ما يلوح فيورث السلو كأوصاف الجبرية والعزة والاستغناء وذلك من مقدمات المكر والشقاء والحرمان .

ثم خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبه إلى حب غيره وذلك هو المقت والسلو عنه مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب مقدمة السلو : وضيق الصدر بالبر وانقباضه عن دوام الذكر وملاله لوظائف الأوراد أسباب هذه المعاني ومقدماتها .

وظهور هذه الأسباب دليل على النقل عن مقام الحب إلى مقام المقت ، نعوذ بالله منه وملازمة الخوف لهذه الأمور وشدة الحذر منها بصفاء المراقبة دليل صدق الحب فإن من أحب شيئا خاف لا محالة فقده ، فلا يخلو المحب عن خوف إذا كان المحبوب مما يمكن فواته .

وقد قال بعض العارفين : من عبد الله تعالى بمحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال ، ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ، ومن عبده من طريق المحبة والخوف أحبه الله تعالى فقربه ومكنه وعلمه فالمحب لا يخلو عن خوف والخائف لا يخلو عن محبة ، ولكن الذي غلبت عليه المحبة حتى اتسع فيها ولم يكن له من الخوف إلا يسير يقال هو في مقام المحبة ويعد من المحبين وكان شوب الخوف يسكن قليلا من سكر الحب ؛ فلو غلب الحب واستولت المعرفة لم تثبت لذلك طاقة البشر ؛ فإنما الخوف يعدله ويخفف وقعه على القلب .

فقد روي في بعض الأخبار أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته ففعل ذلك فهام في الجبال وحار عقله ووله قلبه وبقي شاخصا سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء ، فسأل له الصديق ربه تعالى ، فقال : يا رب : أنقصه من الذرة بعضها ، فأوحى الله تعالى إليه إنما أعطيناه جزءا من مائة ألف جزء من المعرفة ، وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئا من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا ؛ فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد ، فهذا ما أصابه من ذلك ؛ فقال : سبحانك يا أحكم الحاكمين أنقصه مما أعطيته ، فأذهب الله عنه جملة الجزء وبقي معه عشر معشاره ، وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة ، فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين وقد قيل في وصف حال العارف .


قريب الوجد ذو مرمى بعيد عن الأحرار منهم والعبيد     غريب الوصف ذو علم غريب
كان فؤاده زبر الحديد     لقد عزت معانيه
وجلت عن الأبصار إلا للشهيد     يرى الأعياد في الأوقات تجري
له في كل يوم ألف عيد     وللأحباب أفراح بعيد
ولا يجد السرور له بعيد

وقد كان الجنيد رحمه الله ينشد أبياتا يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين وإن كان ذلك لا يجوز إظهاره وهي هذه الأبيات .


سرت بأناس في الغيوب قلوبهم     فحلوا بقرب الماجد المتفضل
عراصا بقرب الله في ظل قدسه     تجول به أرواحهم وتنقل
مواردهم فيها على العز . والنهى     ومصدرهم عنها لما هو أكمل
تروح بعز مفرد من صفاته     وفي حلل التوحيد تمشي وترفل
ومن بعد هذا ما تدق صفاته     وما كتمه أولى لديه وأعدل
سأكتم من علمي به ما يصونه     وأبذل منه ما أرى الحق يبذل
وأعطي عباد الله منه حقوقهم     وأمنع منه ما أرى المنع يفضل
على أن للرحمن سرا يصونه     إلى أهله في السر والصون أجمل

وأمثال هذه المعارف التي إليها الإشارة لا يجوز أن يشترك الناس فيها ولا يجوز أن يظهرها من انكشف له شيء من ذلك لمن لم ينكشف له ، بل لو اشترك الناس فيها لخربت الدنيا فالحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا ، بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين يوما لخربت الدنيا لزهدهم فيها وبطلت الأسواق والمعايش بل لو أكل العلماء الحلال لاشتغلوا بأنفسهم ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم ولكن لله تعالى فيما هو شر في الظاهر أسرار وحكم ، كما أن له في الخير أسرارا وحكما ولا منتهى لحكمته ، كما لا غاية لقدرته .

التالي السابق


(ثم) أشد منه (خوف السلو عنه) وهذا أخوف ما يخافون (فإن المحب يلازمه الشوق والطلب الحثيث فلا يفتر عن طلب المزيد ولا يتسلى إلا بلطف جديد، فإن تسلى عن ذلك كان ذلك سبب وقوفه، أو سبب رجعته) لأن حب المحبين له كان به لا بهم ومنه لا منهم، وهو نعمة عظيمة لا يعرف قدرها فكيف يشكر عليها؟! ولا يقوم لها شيء وكذلك سلوهم عنه يكون به، كما كان حبهم له به (والسلو يدخل عليه من حيث لا يشعر، كما قد يدخل عليه الحب من حيث لا يشعر) فيجد السلو به، كما كان يجد الحب فتكون قد سلوت عنه وأنت لا تدري كيف سلوت؛ لأنه يدرجك بما يخدعك به من الاستبدال منه بما تدري (فإن هذه التقلبات لها أسباب خفية سماوية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها) فأنت لا تفطن ذلك (وإذا أراد الله المكر به واستدراجه أخفى عنه ما ورد عليه من السلو فيقف مع الرجاء [ ص: 630 ] ويفتر بحسن الظن) الذي كان يعهده منه (أو تغلبه الغفلة، أو الهوى) والشهوة (أو النسيان؛ فكل ذلك من جنود الشيطان) في الأرض (التي تغلب) أضدادها من (جنود الملائكة) في السماء (من العلم والعقل والذكر والبيان) قال الله تعالى: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات الآية، عزيز لا يوصل إليه إلا به، حكيم عليم بالزلل منه إلا أنه يدرج في ذلك استدراجا بلطائف الحكمة على معهود الأسباب ومألوف المعتاد (وكما أن من أوصاف الله تعالى ما يظهر فيقتضي هيجان الحب، وهي أوصاف اللطف والرحمة والحكمة) فأجبته: وأنت لا تدري كيف أجبته؛ لأنه أشهده وصفه به باطلاع القدرة عن حنان الرحمة واللطف فاقتضاك الحب له فوجدت نفسك محبا له (فمن أوصافه ما يلوح فيورث السلو كأوصاف الجبرية والعزة والاستغناء) فترجع المحبة كما جاءت؛ فحجبك عنه عن فعل مكروه يبدو لك منه ظهر عن وصف الكبر والجبرية، فتجد قلبك ساليا عنه بلا حول ولا قوة منك ولا اجتلاب ولا حيلة، وهذا لا يصفه إلا عارف بدقيق بلائه ولا يحذره إلا خائف من خفي مكره وابتلائه، فإذا سلوت به عنه كان ذلك دليلا منه على أنه قد رفضك واطرحك، كما أنك إذا كنت تحبه إنما أحببته به (وذلك من مقدمات المكر) الذي يحيق بالممكور (و) هو درك (الشقاء والحرمان) الذي أدرك المغرور (ثم) أشد من هذا كله (خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبه إلى حب غيره) وإنما كان أشد؛ لأنه لا ثنوية فيه (وذلك هو المقت) وهذا هو حقيقة الاستدراج يقع عن نهاية المقت من المحبوب، وغاية البغض منه والبعد (والسلو مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب مقدمة السلو) أي: بداية ذلك كله (وضيق الصدر بالبرد وانقباضه عن دوام الذكر وملاله لوظائف الأوراد أسباب هذه المعاني) المبعدة والمدارج المدرجة إذا قويت وتزايدت أخرجت إلى هذا كله، وإذا تناقضت وبدل بها الصالحات والحسنات أدخلت في مقام المحبة والقربات، كما جاء به الخبر: التائب حبيب الله، كذلك في تدبر الخطاب أن العاكف على هواه مقيت الله (وظهور هذه الأسباب) فيك، ووجد هذه الأوصاف منك (دليل على) ما غاب عنك من الاستبدال والإسقاط الذي هو (النقل عن مقام الحب إلى مقام المقت، نعوذ بالله منه وملازمة الخوف) من هذه المعاني (لهذه الأمور وشدة الحذر منها بصفاء المراقبة دليل على صدق الحب) وعلامة المعرفة بأخلاقه المكونة المقلبة (فإن من أحب شيئا خاف لا محالة فقده، فلا يخلو الحب عن خوف إذا كان المحبوب مما يمكن فواته، وقد قال بعض العارفين: من عبد الله تعالى بمحض المحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش، ومن عبده من طريق المحبة والخوف أحبه الله تعالى فقربه ومكنه وعلمه) نقله صاحب القوت إلا أنه قال: من عرف الله، بدل: من عبد، في المواضع الثلاثة، ثم قال: وليس العجب من خوف المحبين مع ما عرفوا من أخلاقه وحنانه وشهدوا من تعطفه وألطافه ما لم يعرف الخائفون، ثم هم مع حبهم يهابونه وعلى أنسهم به يحبونه وفي فزعهم منه يشتاقون إليه وفي بسطه لهم ينقبضون بين يديه وفي إعزازه لهم يذلون له؛ لأن من قبض فانقبض فليس بعجيب ولكن من بسط فانقبض فهو العجب ومن امتهن فذل فلا عجب، ولكن من أعز وأكرم فتواضع وذل فهو عجب؛ فللمحبين الانقباض في البسط وللخائفين الانقباض في القبض، وللمحبين الذل مع العز والكرامة وللخائفين الذلة مع الهيبة والمهانة؛ فهذا يدل على أن معرفة المحبين به أعظم المعارف إذا كانت أوائل أحوالهم المخاوف (فالمحب لا يخلو عن خوف والخائف لا يخلو عن محبة، ولكن الذي غلبت عليه المحبة حتى اتسع فيها ولم يكن له من الخوف إلا يسير يقال هو في مقام المحبة ويعد من المحبين) فكل محب لله خائف منه وليس كل خائف بمحب يعني محبة المقربين؛ لأنه لم يذق طعم الحب؛ لأن محبة المسلمين المعترضة لا يقع بها اعتبار في مقامات الخصوص؛ لأنها لا توجد عنها مواجيد الأحوال ولا يعلى بها في مشاهدات الانتقال؛ لأنها قوت الإيمان منوط بصحته وموجودة بوجوده فأشبهت محبتهم معرفتهم بالله تعالى التي عنها توحيدهم أنهم عرفوه بوصف [ ص: 631 ] الأزل والقدم والسرمدية والأبدية، وهذا مندرج في اسمين من أسمائه أول وآخر، والعارفون عرفوه بصفات الجبر والقهر والقدرة والمكر، وهذا قد أحكمه في اسمين ظاهر وباطن، وليس هذا من معارف المحبين في شيء، والمحبون عرفوه بصفات التجلي ومعاني المعاني ونعوت الأخلاق، وفي هذا سرائر الغيوب ومشاهدات المحبوب (وكان شوب الخوف يسكن قليلا من سكر الحب؛ فلو غلب الحب واستولت المعرفة لم تثبت لذلك طاقة البشر؛ فإنما الخوف يعدله ويخفف وقعه على القلب) .

قال صاحب القوت: والمحبة لا ترفع الهيبة؛ فلذلك كان كل محب خائفا؛ لأن المحبوب مهيب، والخوف قد يفيض عن المحبة يشغل الخائف بوصله السالف، وهذا كشف الأبرار، وهو حجاب المقربين، إلا أن المحبين لهم من الخوف قوت ومن المحبة اتساع، والخائفين لهم من الخوف اتساع ومن المحبة قوت، وهذا كما تقول في الرجاء والخوف؛ لأنهما وصفا الإيمان إلا أن الخائف يندرج الرجاء في حاله، والراجي ينطوي الخوف في رجائه، كذلك المحب يصير الخوف في عقده ويظهر الحب في وجده، والخائف يغيب الحب في عقده ويظهر الخوف في وجده، إن ربي لطيف لما يشاء هذا لظهور الطرقات ومباني الدرجات؛ إذ كان لا بد من مجموعهما في قلب؛ لأنهما من شرط الإيمان وحقيقته، فتلطف سبحانه لحكمته بقدرته وفي سبق ترتيب المقامات من الله تعالى حكم غريب وحكمة لطيفة لا يعرفها إلا من أعطي يقين شهادتها إن سبق إلى العبد بمقام المحبة كان محبا محبة أصحاب اليمين ولم تكن له مقامات المحبين المستأنسين ولا المشتاقين في مقام المقربين، وكل هؤلاء موقنون صالحون وإن سبق إلى العبد بمقام الخوف كان محبا حب المقربين العارفين هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون وربما كانت المحبة ثوابا للخوف ومزيدا له، وهذا في مقام العاملين، فمن كانت المحبة مزيده بعد الخوف كان من المقربين المحبوبين، ومن كان الخوف مزيد محبته فهذا من الأبرار المحبين وهم أصحاب اليمين (فقد) نقل من وصف من أذيق منه ولم يفصح بذكر وصفه أنه (روي في الأخبار أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته ففعل ذلك فهام في الجبال) وفي بعض النسخ في الحال، وهو لفظ القوت (وحار عقله ووله قلبه وبقي شاخصا) بصره إلى السماء (سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل له الصديق ربه تعالى، فقال: يا رب أنقصه من الذرة بعضها، فأوحى إليه إنما أعطيناه جزءا من مائة ألف جزء من ذرة من المعرفة، وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئا من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا؛ فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد، فهذا ما أصابه من ذلك؛ فقال: سبحانك يا أحكم الحاكمين أنقصه مما أعطيته، فأذهب الله عنه جملة) ذلك (الجزء وبقي معه عشر معاشره، وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة، فاعتدل خوفه وحبه)وعلمه- (ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين) فهذا النوع من شأن المعرفة وتجلي الوصف بمعنى محبة يليق به لا يسع الخلق ولا يصلح لهم ولا يستقيمون عليه؛ فلذلك كان طيه أحسن من نشره؛ لأن العقول تنكره والقلوب تمجه والهمم لا تسر به والقلب لا يجذبه ولا يحببه الله تعالى من العموم (وقد قيل في وصف حال العارف) المحبوب من بحر المتقارب: (

قريب الوجد ذو مرمى بعيد على الأحرار منهم والعبيد غريب الوصف ذو علم غريب
كأن فؤاده زبر الحديد لقد عزت معانيه فغابت
عن الأبصار إلا للشهيد يرى الأعياد في الأوقات تجري
له في كل يوم ألف عيد وللأحباب أفراح بعيد
ولا يجد السرور له بعيد )

هكذا أنشد هذه الأبيات صاحب القوت إلا أنه بتقديم البيت الأخير على الذي قبله، وأنشد أيضا في هذا المقام لبعضهم:

ظهرت لمن أفنيت بعد بقائه فكان بلا كون لأنك كنته
[ ص: 632 ] فمنك بدا عز لحب تمازجا بماء وصال كنت أنت وصلته
وأبدأت وصفا بالعلوم مخبرا فشتت قلبا بالعلوم جمعته
وأفردت حبا فيك منك بمشهد بلا علم في العلم حين بسطته
تعززت بالعز المنيع وكل من أشاد إلى عز فأنت خدعته

قال: وذكرت هذه الأبيات لأبي القاسم الجنيد -رحمه الله تعالى- (قال) صاحب القوت: (و) قد (كان الجنيد) -رحمه الله تعالى- (ينشد أبياتا يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين) وأوصاف المقربين المحبوبين (وأن ذلك لا يجوز إظهاره وهي هذه الأبيات) من بحر الطويل: (

سرت بأناس في الغيوب قلوبهم فحلوا بقرب الماجد المتفضل
عراصا بقرب الله في ظل قدسه تجول بها أرواحهم وتنقل
مواردهم فيها على العز والنهى ومصدرهم عنها لما هو أكمل
تروح بعز مفرد من صفاته وفي حلل التوحيد تمشي وترفل
ومن بعد هذا ما تدق صفاته وما كتمه أولى لديه وأعدل
سأكتم من علمي به ما يصونه وأبذل منه ما أرى الحق يبذل
وأعطي عباد الله منه حقوقهم وأمنع منه ما أرى المنع أفضل
على أن للرحمن سرا يصونه إلى أهله في السر والصون أجمل )

هكذا أنشد هذه الأبيات للجنيد صاحب القوت (وأمثال هذه المعارف التي إليها الإشارة لا يجوز أن يشترك الناس فيها ولا يجوز أن يظهرها من انكشف له شيء منها لمن لم ينكشف له شيء منها، بل لو اشترك الناس فيها لخربت الدنيا) واختل نظامها (فالحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا، بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين يوما لخربت الدنيا لزهدهم فيها وبطلت الأسواق والمعايش) ولفظ القوت: ومثل هذا المقام في الأحوال مثل أكل الحلال في المأكول لا يريد الله تعالى أن يطعمه الكل لعمارة الدار؛ لأن الأمة كلها لو أكلوا حلالا أربعين يوما خربت الأسواق لزهدهم، فليس ذلك من الحكمة (بل لو أكل العلماء الحلال اشتغلوا بأنفسهم ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم) ولفظ القوت: ولو أن العلماء كلهم أكلوا حلالا لم نسمع من هذه العلوم التي نسمعها شيئا لشغلهم بنفوسهم وإعراضهم عن أصحابهم، ففي ترك ذلك حكمة حسنة ورحمة واسعة (ولكن الله تعالى فيما هو شر في الظاهر) حسبما يبدو لنا (أسرار وحكم، كما أن لنا في الخير أسرارا وحكما ولا منتهى لحكمته، كما لا نهاية لقدرته) .

وذكر صاحب القوت بعد أن أورد المقامات السبعة للمحبين في الخوف ما نصه: فالخوف من هذه المعاني علامة المعرفة بأخلاقه المكونة المقلبة، ولا يصلح شرح هذه المقامات في كتاب ولا تفصيلها برسم خطاب إنما يشرح في قلب بيقينه قد شرح ويفصل لعبد من نفسه قد فصل، فأما قلب مشترك وعبد في هواه مرتبك، فليس لذلك أهلا، والله المستعان. قال: وثم خوف ثامن عن شهادة حب عال يقرب اسمه ويلتبس ويخفى وصفه لقلة اشتهاره في الأسماع فيجمل أنسه؛ لأنه خوف عن مقام له اسم من المحبة يتشنع على كثير من سامعيه فينكروه، ويتشنج في أوهام غير مشاهديه فيمثلوه بالخلق، فإن ذكرنا خوفه تم على ذكر مقامه فظهر بإظهاره، فكان طيه أفضل من نشره إلى أن يسأل عنه من ابتلي به ثم صدر عنه بعد أن شرب منه؛ لأن مقامات المحبة كلها إلى جنب مقامه كنهر أضيف إلى بحر مثله كمثل مشاهدات اليقين كلها إلى جنب شهادة التوحيد بالتوحيد، وهو وصف من المحبة يقرب؛ لأنه من شوق الحبيب إلى المحب، وهو من معنى قول رابعة رحمها الله تعالى: أحب الهوى، ومن معنى قول عائشة رضي الله عنها للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن ربك يسارع إلى هواك.




الخدمات العلمية