الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الثاني : الطاعات : وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها . أما الأصل : فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير فإن نوى الرياء صارت معصية وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة ، فيكون له بكل نية ثواب ؛ إذ كل واحدة منها حسنة ، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما ورد به الخبر .

ومثاله : القعود في المسجد فإنه طاعة ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين أولها : أن يعتقد أنه بيت الله ، وأن داخله زائر الله ، فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعده به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى ، وحق على المزور أن يكرم زائره " وثانيها : أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى : ورابطوا وثالثها : الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات ، فإن الاعتكاف كف وهو في معنى الصوم وهو نوع ترهب ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رهبانية أمتي القعود في المساجد " ورابعها : عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ، ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد وخامسها : التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره ، وللتذكر به كما روي في الخبر : " من غدا إلى المسجد ليذكر الله تعالى أو يذكر به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى " وسادسها : أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر ؛ إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين ، فيكون شريكا معه في خيره الذي يعلم منه ، فتتضاعف خيراته وسابعها : أن يستفيد أخا في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة والمسجد معشش أهل الدين ، المحبين لله وفي الله وثامنها : أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما : من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال : أخا مستفادا في الله ، أو رحمة مستنزلة ، أو علما مستطرفا ، أو كلمة تدل على هدى ، أو تصرفه عن ردى ، أو يترك الذنوب خشية أو حياء فهذا طريق تكثير النيات ، وقس به سائر الطاعات والمباحات ؛ إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة ، وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره ، له وتفكر ، فيه ، فبهذا تزكوا الأعمال ، وتتضاعف الحسنات .

التالي السابق


(القسم الثاني: الطاعات: وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها) على اختلاف فيه، تقدمت الإشارة إليه، (وفي تضاعف فضلها. أما الأصل: فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير فإن نوى الرياء صارت معصية) فأصل صحتها بتخليصها من الشوائب، وكذا تمييز رقاب العبادات بعضها عن بعض؛ لتميز الفرض عن النفل، والنفل عن العبادة، وهذا مستوعب فيما تقدم في الربع الأول .

(وأما تضاعف الفضل) فعلى ضربين .

أحدهما: ما أشار إليه المصنف بقوله: (فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب؛ إذ كل واحدة منها حسنة، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما ورد به الخبر) رواه هناد من حديث أنس، وقد تقدم .

(ومثاله: القعود في المسجد فإنه طاعة) من الطاعات (ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين) وأفضال شأن الدين (وتبلغ به درجات) المحسنين (المقربين) :

(أولها: أن يقصد أنه بيت الله، وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه) لينال بذلك كرامة الزائرين (رجاء لما وعده به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى، وحق على المزور إكرام زائره") .

رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث سلمان، وللبيهقي في الشعب نحوه من رواية جماعة من الصحابة لم يسموا بإسناد صحيح، وقد تقدم في كتاب الصلاة .

(وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في جملة انتظاره) كأنه (في الصلاة) فقد روى ابن جرير من حديث أبي هريرة : " من جلس في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث " .

وروى مالك في الموطأ، وابن حبان، والطبراني والحاكم والبيهقي والضياء من حديث عبد الله بن سلام وأبي هريرة : " من جلس في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى تصلى " .

وروى عبد بن حميد وابن جرير والطبراني من حديث سهل بن سعد : " من جلس في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة " وروى عبد بن حميد من حديث جابر : "المرء في صلاة ما انتظرها" (وهو معنى قوله تعالى: ورابطوا ) روى ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه من طريق داود بن صالح قال أبو سلمة : "تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: اصبروا وصابروا ورابطوا ؟ قلت: لا. قال: سمعت أبا هريرة يقول: لم يكن في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد، يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت (اصبروا) أي: على الصلوات الخمس (وصابروا) أنفسكم وهواكم، ورابطوا في مساجدكم، واتقوا الله فيما عليكم، ولعلكم تفلحون .

وروى ابن جرير من حديث جابر وعلي : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويكفر به الذنوب؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط " .

ورواه ابن مردويه من حديث أبي أيوب، وفيه: " فذلكم هو الرباط في المساجد " .

ورواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة، وفيه: " فذلكم الرباط فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " .

وروى ابن أبي حاتم عن أبي غسان قال: إنما نزلت هذه الآية في لزوم المساجد.

(وثالثها: الترهب بكف السمع والبصر) عن المنهيات (والإغضاء عن الحركات والترددات، فإن الاعتكاف كف) أي: منع، فمن دخل المسجد ونوى الاعتكاف فقد كف نفسه عن المنهيات، فيكون ذلك من الفائزين (وهو في معنى الصوم) الذي هو منع النفس عن الشهوات .

(وهو نوع ترهب؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رهبانية أمتي القعود في المساجد") كذا في القوت. وقال العراقي : لم أجد له أصلا .

(ورابعها: عكوف الهم على الله) بأن لا يخطر بقلبه غير الله (ولزوم السر) وهو باطن القلب (للفكر في) أمور (الآخرة، ودفع [ ص: 24 ] الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد) فيكون بذلك من الأقربين .

(وخامسها: التجرد لذكر الله) تعالى إن أمكنه (أو لاستماع ذكره، وللتذكر به) فيكون بذلك من المرحومين المجاهدين (كما روي في الخبر: "من غدا إلى المسجد يذكر الله تعالى أو يذكر به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى") كذا في القوت .

قال العراقي : هو معروف من قول كعب الأحبار، رويناه في جزء ابن طوق، وللطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة : " من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان كأجر حج تام " وإسناده جيد .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة منزلا كلما غدا أو راح" اهـ .

قلت: لفظ حديث أبي أمامة عند الطبراني : "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان كأجر معتمر تام العمرة، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه فله أجر حاج تام الحجة".

وقد رواه كذلك الحاكم وصاحب الحلية وابن عساكر والضياء، وربما يشهد لما أورده المصنف ما رواه أبو الشيخ من حديث الزبير: "من جلس من حين يصلي المغرب يذكر الله حتى يصلي العشاء كان مجلسه ذلك روضة في سبيل الله، ومن جلس حين يصلي الغداة يذكر الله حتى تطلع الشمس كانت مثل غدوة في سبيل الله عز وجل".

قال صاحب القوت: ومثل ذلك إذا جلس ليعلم علما ويتعلمه كان أيضا كالمجاهد في سبيل الله .

(وسادسها: أن يقصد إفادة علم بأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته) بإخلال شيء من أركانها وواجباتها وسننها وآدابها، (أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف) وينهاه عن المنكر، (ويرشده إلى الدين، فيكون شريكا معه في خيره الذي يعلم منه، فتتضاعف خيراته) فيكون بذلك من خير أمة. وقد وردت في الأمر بالمعروف وإرشاد الضال والهداية أخبار كثيرة مر ذكرها في مواضعها .

(وسابعها: أن يستفيد أخا في الله) عز وجل (فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة) وقد تقدم ما يتعلق بذلك في كتاب الصحة والأخوة .

(والمسجد معشش أهل الدين، المحبين لله وفي الله) أي: مظنة وجودهم فيه، فإنه محل أهل الله الصالحين، وعشهم، فيكون ممن يحق له صحبة الله، ويكون في ظله يوم لا ظل إلا ظله .

(وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وخشية) أي: خوفا (من أن يتعاطى في بيت) من بيوت (الله ما يقتضي هتك الحرمة) وذلك من تقوى القلوب، وقد يكون ترك الذنوب لا من باب الحياء بل من باب الخشية من عذاب الله تعالى، لو تعاطى شيئا من المخالفات في المساجد .

( وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخا مستفادا في الله، أو رحمة مستنزلة، أو علما مستطرفا، أو كلمة تدله على هدى، أو تصرفه عن ردى، أو يترك الذنوب خشية أو حياء ) منه، نقله صاحب القوت .

قلت: وهذا قد روي مرفوعا من حديثه رواه الطبراني في الكبير، وابن عساكر من طريق سعد بن طريف، عن عمير بن المأمون، عن الحسن بن علي، وعمير لا شيء، وسعد متروك .

(فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات والمباحات؛ إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة، وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير، والتشمر له، وتفكره فيه، فبهذا تزكو الأعمال، وتتضاعف الحسنات) وهي طريقة العلماء الذين تفردوا لذكر الله، لا يعرفها غيرهم، قد وضع الذكر عنهم أوزارهم، فوردوا القيامة خفافا .

الضرب الثاني: في مضاعفة الفضل، لم يشر إليه المصنف، وهو لا بد من ذكره؛ وذلك أنه قد تقدم أن الجزاء في الآخرة على قدر النيات، وتقدم أن النية تتبع المعرفة، والمعرفة تتبع الغرض المطلوب، وتمهد في الشريعة أن الجزاء الواقع في الآخرة موازن لأعمال العباد، ومناسب له، كما ورد: "إن الصائمين يدخلون الجنة من باب الريان، وإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وإن المتكبرين على صور الذر" وأمثال هذا لا تنحصر .

فإذا حققت أن العبد إذا لم يقصد بعلمه إلا امتثال أمر الله حياء منه، وتعظيما لجلاله وكبريائه وكماله في ذاته وصفاته وجميع أفعاله، وأنه المستحق لذلك بصفات الألوهية على عباده، كان ذلك من أفضل النيات وأشرف القربات، وأثابه الله ما يناسب حسن معرفته وقصده من النظر إلى وجهه جل سبحانه، ومن ضعفت بصيرته عن ذروة الكمال حتى لم يعرف من شهادة الآخرة إلا اللذات الحسية دل عليه أنه لم يعرف من نعيم [ ص: 25 ] الجنان إلا أقل المراتب، وأخفض المنازل، فإذا قصد بطاعته ذلك صحت نيته ونقصت عن درجات الكمال مع صحتها في نفسها، فإن الإنسان يطلق عليه الصحة والحياة وهو فاقد لجميع المحاسن المكملة لصورة الرجال .




الخدمات العلمية