الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل السادس .

أن لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق خلافا للمعتزلة لأنه متصرف في ملكه ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو محال على الله تعالى ; فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما ويدل على جواز ذلك وجوده فإن ذبح البهائم إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة .

فإن قيل إن الله تعالى يحشرها ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام ويجب ذلك على الله سبحانه فقول من زعم أنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت وكل بقة عركت حتى يثيبها على آلامها فقد خرج عن الشرع والعقل ، إذ يقال : وصف الثواب والحشر بكونه واجبا عليه إن كان المراد به أن يتضرر بتركه فهو محال وإن أريد به غيره فقد سبق أنه غير مفهوم إذ ، خرج عن المعاني المذكورة للواجب .

التالي السابق


(الأصل السادس أن لله عز وجل إيلام الخلق) بأنواع الآلام (وتعذيبهم من غير جرم) منهم (سابق) على الإيلام (ومن غير ثواب) لاحق له في الدنيا ولا في الآخرة، ومعنى كون ذلك له أنه جائز عقلا، لا يقبح منه تعالى (خلافا للمعتزلة) حيث لم يجوزوا ذلك إلا بعوض لاحق، أو جرم سابق، قالوا: وإلا لكان ظلما غير لائق بالحكمة، وهو محال في حقه تعالى، فلا يكون مقدورا له، ولذلك أوجبوا على الله تعالى أن يقتص لبعض الحيوانات من بعض، وقد أشار المصنف إلى الجواب بقوله: (لأنه) أي: الرب تعالى (متصرف في ملكه) بكسر الميم، أي: مطلقا (ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه) ، فليس لأحد من خلقه عليه حجر; لأن الخلق ملكه، وقولهم: وإلا لكان ظلما; فالجواب أن الملازمة ممنوعة، وإليه أشار المصنف بقوله: (والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير) أو في غير الملك (وهو محال على الله تعالى; فإنه لا يصادف لغيره ملكا) ولا يخرج عن ملكه شيء (حتى يكون تصرفه فيه ظلما) ومن معاني الظلم أيضا مجاوزة الحد، ووضع الشيء بغير محله، بنقص أو زيادة، أو عدول عن زمنه، ومجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، وكل ذلك محال على الله تعالى (وإذا بطل) استدلالهم قلنا: (يدل على) ما قلنا من (جواز ذلك) أي: الإيلام من غير عوض ولا جرم (وجوده) أي: وقوعه، وذلك الواقع ما يشاهد من أنواع البلاء بالحيوان من الذبح والعقر والحراثة وجر الأثقال وتحميلها إياه، وإليه أشار المصنف بقوله: (فإن ذبح البهائم) وهي المأكولة التي لم تتوحش، وعقر الصيد وما في معناه (إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين) من حمل الأثقال عليها وإتعابها بجرها و (لم يتقدمها جريمة) تقتضي ذلك (فإن قيل) من طرف المعتزلة (أن الله تعالى يحشرها) يوم القيامة (ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام) إما في الموقف - كما قال بعضهم- أو في الجنة بأن تدخل الجنة في صورة حسنة، بحيث يلتذ برؤيتها على تلك الصورة أهل الجنة، فتنال نعيم الجنة في مقابلة ما لها من الآلام، أو أنها تكون في جنة تخصها، أي:

[ ص: 185 ] تنال نعيمها على حسب مذاهبهم المختلفة في ذلك، قالوا: (ويجب ذلك على الله سبحانه) وتعالى، (فنقول) : في الجواب ذلك الذي ذكرتم من جزائها بتفصيله لا يوجبه العقل، ولا شيئا منه، وإن جوزه ولم يرد به سمع يصلح مستندا للجزم بوجوب وقوعه في الآخرة، فلا يجوز الجزم به، و (من زعم أنه يجب على الله) تعالى (إحياء كل نملة وطئت) تحت الأرجل (وكل بقة) أي: بعوضة (عركت) بالأيادي، وفي معناها البرغوث والناموس ونحوهما، كالقمل وغيره (حتى يثيبها على آلامها) ويجازيها (فقد خرج عن الشرع والعقل، إذ يقال: وصف الثواب والحشر لكونه واجبا عليه) كما زعموا (إن كان المراد به أنه يتضرر بتركه فهو محال) وهذا هو الوجوب العقلي (وإن أريد به غيره فقد سبق) قريبا (أنه غير مفهوم، فإذا خرج عن المعاني المذكورة للواجب) .

وفي محجة الحق لأبي الخير القزويني: وجوزوا إيلام البري من الله تعالى، كالبهائم والأطفال، من غير عوض، خلافا للمعتزلة; فإنهم قالوا: لا يجوز إيلام البري من الله تعالى، كالبهائم والأطفال، من غير تعويض في دار الآخرة، أو لاعتبار غيره، وهذا لا يصح، إن إيلام البري غير مستحيل، ولا يفضي إلى استحالة، فيكون جائزا والله تعالى قادر على التفضل بمثل العوض، فأي حاجة إلى سبق إيلام، وهذا كمن أراد أن يعطي إنسانا شيئا فيؤدبه، ثم يعطيه، فهذا لا يجوز عندهم. اهـ .

وفي التذكرة الشرقية لابن القشيري: ولو قبح منه إيلام البري من غير تعويض وتعريض لأسنى المنازل; لقبح أن يبيح ذبح الحيوانات وتسخيرها، وألا يؤلم الحيوانات ويميتها، ومن صار إلى أن البهائم والحشرات تستحق على الله تعالى غدا جنانا ونعيما فقد أصيب في عقله. اهـ .

وأما ما رواه أحمد بإسناد صحيح: "يقتص للخلق بعضهم من بعض، حتى للجماء من القرناء، وحتى للذرة من الذرة"، وهو في صحيح مسلم بلفظ: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء "، فالمراد بالاقتصاص المذكور أن يدخل الله تعالى عليها من الآلام في الموقف بقدر ما يعلمه قصاصا، أو يقتص حقيقة، وذلك لا يمنعه العقل عندنا، لكن لا نوجبه، أي: لا نقول بوجوب وقوعه منه تعالى، كما يقوله المعتزلة، وهذا أولى من القول بأنه خبر آحاد غير مفيد للقطع، والقطع هو المعتبر في العقائد، فتأمل .

وفي شرح اللمع لابن التلمساني: ومما يعظم وقعه على القائلين بالتحسين والتقبيح وموجبي الأصلح والصالح على الله تعالى إيلامه للبهائم والأطفال، فكيف حسن منه تعالى ذلك مع حكمهم بقبحه؟! فصارت البكرية - وهم أصحاب أبي بكر بن عبدالواحد- إلى أنها لا تتألم، وهو جحد للضرورة، وصارت الثنوية أن ذلك لا يصدر إلا من فاعل الشر، فصار جماعة من غلاة الروافض وغيرهم إلى التزام التناسخ، وقالوا: إنما حسن ذلك من حيث استحقته بجرائم سابقة اقترفتها في غير هذه القوالب، فنقلت إلى هذه القوالب عقوبة لها، ومن أصولهم أنها مدركة، عالمة بما هي فيه من العقوبة على الزلات، وأما جمهور المعتزلة فحكموا بأنه إنما يحسن من الله تعالى إما بطريق العتاب بجريمة سابقة، أو بالتزام التعويض، فقيل لهم: إذا كان الباري قادرا على إيصال مثل ذلك العوض بدون الإيلام، فكيف يحسن منه الإيلام؟! فقالوا: لأن ما يكون عوضا يزيد على ما يقع به النقل ابتداء فهو أصلح لهم. قالوا: ثم العوض المستحق بالطاعة يزيد على المستحق بالإيلام، وجميع ذلك يقتضي نسبة الله تعالى إلى العجز عن أن يوجد مثل العوض ابتداء .



(فصل)

وحاصل ما في المسايرة وشرحه أن الحنفية لما استحالوا عليه تعالى تكليف ما لا يطاق، فهم لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في طاعة مولاه أشد منعا لتعذيب المحسن المذكور، وهم في ذلك مخالفون للأشاعرة القائلين بأن له تعالى تعذيب الطائع، وإثابة العاصي، ولا يكون ظلما، كما مر، ثم منعهم ذلك ليس بمعنى أنه يجب عليه تعالى تركه، كما تقول المعتزلة، بل بمعنى أنه يتعالى عن ذلك; لأنه غير لائق بحكمته، فهو من باب التنزيهات، هذا في التجويز عليه تعالى عقلا وعدمه، أما الوقوع فمقطوع بعدمه، غير أنه عند الأشاعرة للوعد بخلافه، وعند الحنفية والمعتزلة لذلك الوعد ولقبح خلافه، ثم نقل عن أبي البركات النسفي، صاحب العمدة، أن تخليد المؤمنين في النار، والكافرين في الجنة، يجوز عقلا عند الأشاعرة، إلا أن السمع ورد بخلافه، فيمتنع [ ص: 186 ] وقوعه لدليل السمع، وعندنا، معشر الحنفية، لا يجوز .

قال ابن الهمام: وقول الأشعرية أحب إلي، ولكن إذا أريد بالمؤمنين الفسقة; لجواز أن يعذب الفاسق على الذنب الذي أصر عليه إلى أن مات أبدا، كالكفر، على ما ذهب إليه المعتزلة من تأبيد عذابه، إذ لا مانع من ذلك عقلا، لولا النصوص الواردة بتفضيله تعالى بخلافه; إذ لا مانع من ذلك عقلا، ولأن تخليد الكافرين في الجنة لو قدر وقوعه لكان من باب العفو، وهو جائز في نظر العقل، إلا أن صاحب العمدة لما اختار أن العفو عن الكفر لا يجوز عقلا، وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشعري في قوله: إن امتناعه بدليل السمع، لا بالعقل، كان كامتناع تخليد الكافر في الجنة لازم مذهبه; لأن عدم جواز العفو عن الكفر بأن يعاقب عليه أبدا يلزمه عدم جواز دخول الكافرين الجنة عقلا، ونحن لا نقول بامتناع العفو عن الكفر عقلا، بل سمعا، كالأشعري، وظنهم أنه مناف للحكمة لعدم المناسبة غلط، وقولهم: تعذيب الكفار واقع لا محالة بالاتفاق، فيكون وقوعه على وجه الحكمة، فعدم التعذيب على خلافها; قلنا: مناسبة الشيء الواحد للضدين ثابت في الشاهد، حيث ثبت في العقل مناسبة قتل الملك لعدوه إذ ظفر به تشفيا لما عنده من الحنق عليه، وعفوه عنه إظهارا لعدم الالتفات إليه تحقيرا لشأنه، وقدمنا أنه يستحيل عليه تعالى الاتصاف بحقيقة الحنق ليتشفى بالعقاب، فالباعث على العقاب في الشاهد منتف في حقه تعالى، ثم قال: هذا الذي ذكرنا يرجع إلى أمر الآخرة، أما في الدنيا فلا نزاع بين المعتزلة وغيرهم في وقوع الإيلام فيها، كما هو مشاهد، بل النزاع في إيجاب العوض باعتباره، والحنفية لا يوجبونه على الله تعالى وفاقا للأشاعرة، وخلافا للمعتزلة، والحنفية كالأشاعرة يعتقدون في وقوع الإيلام في الدنيا حكمة لله سبحانه، فقد تدرك على وجه القطع، كتكفير الخطايا، ورفع الدرجات، وقد تظن كتطهير النفس من أخلاق لا تليق بالعبدية، لقبح آثارها، من حسد وكبر وبطر وقسوة.. وغيرها; فإنها تقتضي التعدي بإيذاء أبناء النوع، فسبب على المتعدي الألم الحسي في بدنه، والمعنوي بقبض الرزق، وشدة الفقر، ليتضرع لمولاه في رفع تلك الأخلاق; فيتحقق بوصف العبودية لعز الربوبية، ويكون الإيلام في الدنيا أيضا ابتلاء أحد المتغايرين بالآخر إن كان المبتلى به مكلفا، فيترتب في حقه أحكام، كظلم إنسان مثله، أو ظلم بهيمة .

قال مشايخ الحنفية: خصومة البهيمة أشد من خصومة المسلم يوم القيامة، كخصومة الذمي، وقد لا تدرك الحكمة في الإيلام، كما في إيلام البهائم والأطفال الذين لا تمييز لهم، بالأمراض ونحوها، فنحكم بحسنه قطعا، إذ لا قبيح بالنسبة إليه تعالى وفاقا، ونعتقد فيه قطعا حكمة لله تعالى قصرت عقولنا عن دركها، فيجب التسليم له فيما يفعله، ويجب اعتقاد الحقيقة في فعله; إذ هو تصرف فيما يملك، ويجب ترك الاعتراض، له الحكم، وله الأمر، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، والله أعلم .




الخدمات العلمية