الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإنما تكثر الحيات والعقارب في قبور الأغنياء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وفرحوا بها واطمأنوا إليها فهذه مقامات الإيمان في حيات القبر وعقاربه وفي سائر أنواع عذابه رأى أبو سعيد الخدري ابنا له قد مات في المنام فقال له : يا بني عظني ، قال : لا تخالف الله تعالى فيما يريد قال : يا بني زدني قال : يا أبت لا تطيق قال : قل : قال : لا تجعل بينك وبين الله قميصا فما لبس قميصا ثلاثين سنة .

فإن قلت : فما الصحيح من هذه المقامات الثلاث فاعلم ؟ أن في الناس من لم يثبت إلا الأول وأنكر ما بعده ، ومنهم من أنكر الأول وأثبت الثاني ، ومنهم من لم يثبت إلا الثالث ، وإنما الحق الذي انكشف لنا بطريق الاستبصار أن كل ذلك في حيز الإمكان وأن من ينكر بعض ذلك فهو لضيق حوصلته وجهله باتساع قدرة الله سبحانه وعجائب تدبيره فينكر من أفعال الله تعالى ما لم يأنس به ويألفه ، وذلك جهل وقصور بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب ممكنة والتصديق بها واجب ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع ورب عبد تجمع عليه هذه الأنواع الثلاثة نعوذ بالله من عذاب الله قليله وكثيره .

هذا هو الحق فصدق به تقليدا فيعز على بسيط الأرض من يعرف ذلك تحقيقا والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك في تفصيل ذلك ولا تشتغل بمعرفته بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب كيفما كان فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين أو بسيف أو بموسى وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه وهذا غاية الجهل فقد علم على القطع أن العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم أو نعيم مقيم فينبغي أن يكون الاستعداد له فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان .

التالي السابق


(وإنما تكثر الحيات والعقارب في قبور الأغنياء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وفرحوا بها واطمأنوا إليها) وإنما كثرتها بكثرة صفاتهم الخبيثة (فهذه مقامات الإيمان في حيات القبر وعقاربه وفي سائر أنواع عذابه) ويروى أنه (رأى أبو سعيد الخراز رحمه الله [ ص: 408 ] ابنا له قد مات في المنام فقال له: يا بني عظني، قال: لا تخالف الله تعالى فيما يريد قال: يا بني زدني قال: يا أبت لا تطيق) أي: لصعوبته (قال: قل: قال: لا تجعل بينك وبين الله قميصا فما لبس قميصا ثلاثين سنة) أورده القشيري في الرسالة إلا أنه قال: يا بني أوصني فقال: يا أبت لا تعامل الله على الجبن فقال: يا بني زدني فقال: لا تخالف الله فيما يطالبك والباقي سواء (فإن قلت: فما الصحيح من هذه المقامات الثلاث؟ فاعلم أن في الناس من لم يثبت إلا الأول وأنكر ما بعده، ومنهم من أنكر الأول وأثبت الثاني، ومنهم من لم يثبت إلا الثالث، وإنما الحق الذي انكشف لنا بطريق الاستبصارات أن كل ذلك في حيز الإمكان وأن من ينكر بعض ذلك فهو لضيق حوصلته وجهله باتساع قدرة الله تعالى وعجائب تدبيره فينكر من أفعال الله تعالى ما لم يأنس به ويألفه، وذلك جهل وقصور بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب ممكنة والتصديق بها واجب ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع ورب عبد تجمع عليه هذه الأنواع الثلاثة نعوذ بالله من عذاب الله قليله وكثيره هذا هو الحق فصدق به تقليدا فيعز) أي: يندر (على بسيط الأرض من يعرف ذلك تحقيقا) لأنه ليس من جنس معارف هذا العالم (والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك في تفصيل ذلك ولا تشتغل بمعرفته) فتضيع وقتك (بل تشتغل بالتدبير) والاحتيال (في رفع العذاب) عنك (كيفما كان) وبأي وجه أمكن (فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه) ويمثل به (فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين أو بسيف أو بموسى) أو غير ذلك من آلات القطع (وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه وهذا غاية الجهل فقد علم على القطع) واليقين (أن العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم أو عن نعيم مقيم فينبغي أن يكون الاستعداد له فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان) وفيه غاية الخسران قال المصنف في آخر كتاب الأربعين الذي ختم به كتاب الجواهر ما نصه: فإن قلت: فهل يتمثل هذا التنين تمثلا يشاهده مشاهدة تضاهي إدراك البصر أو هو تألم محض في ذاته كتألم العاشق إذا حيل بينه وبين معشوقه؟

فأقول: بل هو يتمثل له حتى يشاهده ولكن تمثلا روحانيا لا على وجه يدركه من هو بعد في عالم الشهادة إذا نظر في قلبه فإن ذلك من عالم الملكوت نعم العاشق أيضا قد ينام فتمثل له حاله في المنام فربما يرى حية تلدغ صميم فؤاده; لأنه يعد بالنوم في عالم الشهادة قليلا فذلك تتمثل له حقائق الأشياء تمثلا محاكيا للحقيقة منكشفا له من عالم الملكوت والموت أبلغ في الكشف من النوم لأنه أقمع لنوازع الحس والخيال وأبلغ في تحذير جوهر الروح من غشاوة هذا العالم فلذلك يكون التمثيل تاما محققا دائما لا يزول فإنه نوم لا ينتبه منه إلى يوم القيامة فيقال: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد واعلم أن المستيقظ بجنب النائم إن كان لا يشاهد الحية التي تلدغ النائم فذلك غير مانع من وجود الحية التي تلدغ النائم في حقه وحصول الألم به، كذلك حال الميت في قبره ولعلك تقول: قد استدعيت قولا مخالفا للمشهور منكرا عند الجمهور، وإذ زعمت أن أنواع عذاب الآخرة يدرك بنور البصيرة والمشاهدة إدراكا مجاوزا حد التقليد الشرعي، فهل يمكنك إن كان كذلك حصر أصناف عذاب الآخرة وتفاصيله؟ فاعلم أن مخالفتي للجمهور لا أنكرها، وكيف ينكر مخالفة المسافر للجمهور والجمهور مستقرون في البلد الذي هو مسقط رءوسهم ومحل ولادتهم وهو المنزل الأول من منازل وجودهم وإنما يسافر منهم الآحاد، واعلم أن البلد منزل البدن والقالب وإنما منزل روح الإنسان عوالم الإدراكات والمحسوسات وهو المنزل الأول والمتخيلات المنزل الثاني والتوهمات المنزل الثالث، وما دام الإنسان في المنزل الأول فهو دود وفراش; فإن فراش النار ليس له إلا الإحساس، ولو كان له تخيل وحفظ للمتخيل بعد الإحساس لما تهافت على النار مرة بعد أخرى، وقد تأذى بها أولا فإن الطير وسائر الحيوانات إذا تتأذى في [ ص: 409 ] موضع بالضرب تفر منه ولم تعاوده; لأنه بلغ المنزل الثاني وهو حفظ المتخيلات بعد غيبوبتها عن الحس، وما دام الإنسان في المنزل الثاني بعد فهو بهيمة ناقصة إنما حده أن يحذر من شيء تأذى به مرة، وما لم يعاود بشيء فلا يدري أنه يحذر منه، فإذا صار في المنزل الثالث وهو المتوهمات فهو بهيمة كاملة كالفرس مثلا فإنه قد يحذر من الأسد إذا رآه أولا، وإن لم يتأذ به قط فلا يكون حذره موقوفا على أن يتأذى به مرة بل الشاة ترى الذئب أولا فتحذره وترى الجمل والثور وهما أعظم منه شكلا وأهول منه صورة فلا تحذرهما إذ ليس من طبعهما أذاها، وإلى الآن في مشاركة البهائم، وبعد هذا يترقى الإنسان إلى عالم الإنسانية فيدرك الأشياء لا تدخل في حس ولا تخيل ولا وهم ويحذر به الأمور المستقبلة، ولا يقتصر حذره على الأمور العاجلة اقتصار حذر الشاة على ما تشاهد في الحال من الذئب ومن ههنا يصير حقيقته الإنسانية، والحقيقة هي الروح المنسوبة إلى الله تعالى، ونفخت فيه من روحي، وفي هذا العالم يفتح له باب الملكوت فيشاهد الأرواح المجردة عن غشاوة القوالب، وأعني بهذه الأرواح الحقائق المجردة عن كسوة التلبيس وغشاوة الأشكال، وهذا العالم لا نهاية له، وأما العوالم المحسوسات والمتخيلات والموهومات فمتناهية; لأنها متجاورة للأجسام وملتصقة بها والأجسام لا يتصور أن تكون غير متناهية والسير في هذا العالم مثاله الخيالي المشي على الماء، ثم يترقى منه إلى المشي على الهواء، وإما ليزداد على المحسوسات فهو كالمشي على الأرض وفيها تتولد درجات الشياطين حتى يتجاوز الإنسان عوالم البهائم فينتهي إلى عالم الشياطين ومنه يسافر إلى عالم الملائكة، وقد ينزل فيه ويستقر، وفي هذه العوالم كلها .منازل الهدى والهدى المنسوب إلى الله تعالى يوجد في العالم الرابع وهو عالم الأرواح وهو قوله تعالى: إن الهدى هدى الله ومقام كل إنسان ومحله ومنزلته في العلو والسفل بمقدار إدراكه هو معنى قول علي رضي الله عنه: الناس أبناء ما يحسنون، فالإنسان بين أن يكون دودا أو حمارا أو فرسا أو شيطانا، ثم يجاوز ذلك فيصير ملكا والملائكة درجات فمنهم الأرضية، ومنهم السماوية، ومنهم المقربون المرتفعون عن الالتفات إلى السماء والأرض القاصرون نظرهم على جمال حضرة الربوبية، وملاحظة الوجه الكريم خاصة وهم أبدا في دار البقاء إذ ملحوظهم هو الوجه الباقي، وأما ما عدا ذلك فالفناء مصيره أعني السماوات والأرض وما يتعلق بها من المحسوسات والمتخيلات والموهومات وهو معنى قوله تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وهذه العوالم منازل سفر الإنسان ليرتقي من حضيض درجة البهائم إلى يفاع رتبة الملائكة، ثم يرتقي من رتبتهم إلى رتبة العشاق وهم منهم فهم العاكفون على ملاحظة جمال الوجه يسبحون وجه الكريم ويقدسونه بالليل والنهار لا يفترون، فانظر الآن إلى خسة الإنسان وإلى شرفه وإلى بعد مراقيه في معراجه وإلى استحطاط درجاته في سفله وكل الآدميين مردودون إلى أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات يترقون منهم فلهم أجر غير ممنون وهو ملاحظة جمال الوجه، وبهذا يفهم معنى قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال الآية؛ لأن معنى الأمانة التعرض للعهدة لخطر الثواب والعقاب في الطاعة والمعصية ولا خطر على سكان الأرض هم البهائم إذ ليس لهم إمكان الترقي من المنزل الثاني ولا خطر على الملائكة إذ ليس لهم خوف الانحطاط إلى حضيض علم البهائم فانظر إلى الإنسان وعجائب عوالمه كيف يعرج إلى سماء العلو رقيا ويهوي إلى الأرض السافلة للحقارة هويا متقلدا هذا الخطر العظيم الذي لم يتقلده في الوجود غيره، فيا مسكين كيف تقهرني بالعاقبة وتخوفني بمجاوزة الجمهور ومخالفة المشهور وبذلك فرحي وسروري أن الذي تكرهونه مني هو الذي يشتهيه قلبي فاطو طور الهذيان ولا تقعقع بعد هذا بالشنانز



وأما مطالبتك بتفصيل عذاب الآخرة وذكر أصنافه فلا تطمع في التفصيل فذلك داعية إلى الإملال والتطويل فقد ظهر لي بالمشاهدة ظهورا أوضح من العيان أن أصناف عذاب الآخرة ثلاثة أعني الروحاني منها: حرقة فرقة المشتهيات وخزي خجلة المفضحات وحسرة فوات المحبوبات; فهذه ثلاثة أنواع من النيران الروحانية تتعاقب على روح من آثر الحياه الدنيا إلى أن ينتهي إلى مقاساة النار الجسماني، فإن ذلك يكون في آخر الأمر فخذ الآن شرح هذه الأصناف .

الصنف الأول

[ ص: 410 ] حرقة فرقة المشتهيات: فصورته المستعارة من عالم الحس والتخيل التنين وضعه الشارع -صلى الله عليه وسلم- وعدد رءوسه وهي بعدد الشهوات ورذائل الصفات يلدغ صميم الفؤاد لدغا مؤلما، وإن كان البدن بمعزل عنه فقدر في عالمك هذا ملكا مستوليا على جميع الأرض متمسكا من جميع البلاد مستهترا بالوجوه الحسان متهلكا عليها مشغوفا باستعباد الخلق بالطاعة مطاعا فيهم فقصد رجل فاسترقه ليستعمله في تعهد الكلاب وصار يتمتع بأهله وجواريه بين يديه ويتصرف في خزائنه وذخائر أمواله فيفرقها على أعدائه ومعانديه فانظر الآن هل ترى على قلبه تنينا ذا رءوس كثيرة يلدغ من صميم فؤاده وبدنه بمعزل عنه وهو يود أنه لو يبتلى بدنه بأمراض وآلام ليتخلص منه فتوهم هذا فربما تشتم قليلا من رائحة الحطمة التي فيها نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة أعدت لمن جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده، واعلم أن عذاب كل ميت بعدد رءوس هذا التنين وعدد الرءوس بعدد المشتهيات ومن كان أفقر وتمتعه بالدنيا أقل كان العذاب عليهم أخف، ومن لا علاقة له مع الدنيا أصلا فلا عقاب عليه أصلا .

الصنف الثاني: خزي خجلة المفضحات فقدر رجلا خسيسا رذلا فقيرا عاجزا قربه ملك الملوك وقواه وخلع عليه وسلم إليه نيابة ملكه ومكنه من دخول حريمه وخزائنه اعتمادا على أمانته فلما عظمت عليه النعمة طغى وبغى وصار يخون في خزائنه ويفجر بأهل الملك وبناته وسرياته وهو في جميع ذلك يظهر الأمانة للملك، ويعتقد أنه غير مطلع على خيانته، فبينما هو في غمرة فجوره وخيانته إذ لاحظ روزنة فرأى الملك يطلع عليه منها، وعلم أنه كان يطلع عليه كل يوم ولكن كان يغضي عنه ويمهله حتى يزداد خبثا وفجورا ويزداد استحقاقا للنكال لتنصب عليه بالآخرة أنواع العذاب فانظر إلى قلبه كيف يحرق بنيران خزي الخجلة وبدنه بمعزل عنه، وكيف يود أن يعذب بدنه بكل عذاب وينكتم خزيه فكذلك أنت تتعاطى في الدنيا أعمالا لها حقائق خبيثة قبيحة وأنت جاهل بها فتنكشف لك في الآخرة حقائقها في صورها القبيحة فتختزي وتخجل خجلة تؤثر عليها آلام بدنك فإن قلت: كيف تنكشف لي حقائقها؟ فاعلم أنك لا تفهمه إلا بمثال وجملته مثلا أن يؤذن مؤذن في رمضان قبل الصبح فيرى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فيقول له ابن سيرين: هذا رأيته لأذانك قبل الصبح، فتأمل الآن أنه لما بعد بالنوم قليلا عن عالم الحس انكشف له روح عمله لما كان يعد في عالم التخيل; لأن النائم لا يزيل تخيله غشاوة الخيال إلا بمثال متخيل وهو الخاتم والختم به لكنه مثال أدل على روح العمل من نفس الأذان; لأن عالم المنام أقرب إلى عالم الآخرة والتلبيس به أضعف قليلا وليس يخلو عن تلبيس ولأجله يحتاج إلى التعبير فلو قال قائل لهذا المؤذن: أما تستحي أن تختم على أفواه الرجال وفروج النساء؟ لقال: معاذ الله أن أفعل هذا ولأن أقوم فيضرب عنقي أحب إلي من أن أفعل هذا فينكره; لأنه يجهله مع أنه فعل؛ لأن روحه قاصرة عن إدراك أرواح الأشياء، وكذلك لو أكلت لحما طريا على اعتقاد أنه لحم طير فقال قائل: أما تستحي أن تأكل لحم أخيك الميت فلان؟ لقلت: معاذ الله أن أفعل ذلك ولأن أموت جوعا أهون علي من ذلك فنظرت فإذا هو لحم أخيك الميت قد طبخ وقدم إليك ولبس عليك، فانظر كيف تختزي وتفتضح به وبدنك بمعزل من ألمه وكذلك المغتاب يرى نفسه في الآخرة; لأن روح الغيبة تمزيق أعراض الإخوان والتفكه بها، وفي عالم الآخرة تنكشف أرواح الأشياء وحقائقها، وهذا روح حسدك لأخيك فإنك تحسده ولا يضره وينعكس عليك ويهلك دينك وتنقل حسناتك إلى ديوانه وهي قرة عينك؛ لأنها سبب سعادة الأبد فهي أعذب من حرقة الولد فإذا انكشف لك هذا الروح فانظر كيف تحترق بنيران الفضيحة وبدنك بمعزل عنه، فالقرآن كثيرا ما يعبر عن الأرواح فلذلك قال تعالى في الغيبة: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا وقال في الحسود: أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ويكفيكم من الأمثال مثال الأذان والغيبة والحسد وقس عليه كل فعل نهاك الشرع عنه فذلك يفتح لك معرفة روح الفعل وحقيقته وحسن ظاهره كحسن البصر الظاهر وقبح باطنه كقبح البصيرة الباطنة من مشكاة نور الله تعالى وعن هذا عبر الشارع -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: تعرض الدنيا يوم القيامة في صورة شوهاء زرقاء صفتها كيت وكيت لا يراها أحد إلا ويقول: أعوذ بالله منها فيقال: هذه دنياكم التي كنتم بها تتهاوشون عليها فيصادفون في أنفسهم من الخزي والفضيحة ما يؤثرون النار عليه وإن [ ص: 411 ] أردت أن تفهم كيفية هذه الخجلة فاسمع حكاية الرجل من أبناء الملوك تزوج بأجمل امرأة من بنات الملوك فشرب تلك الليلة وسكر وأخطأ باب الحجرة وخرج وضل ورأى ضوء سراج فقصده على ظن أنه في حجرته فدخل الموضع فرأى جماعة قياما فصاح بهم فلم يجيبوه وظن أنهم قيام فطلب العروس فرأى واحدة نائمة في ثياب جديدة فظن أنها العروس فضاجعها وأخذ يقبلها ويغشاها وجعل لسانه في فيها ولسانها في فيه ويمتص ريقها متلذذا في سكره غاية التلذذ ويتمسح بالرطوبات التي تصيبه من جميع بدنها على ظن أن ذلك عطر ادخرته له، فلما أصبح أفاق فإذا هو في ناروس المجوس، وإذا النيام موتى، وهذه عجوز شوهاء قريبة العهد بالموت عليها الحنوط وكفن جديد، وإذا هو من فرقه إلى قدمه ملطخ من قاذورتها، ثم يتفكر في غشيانه لها وابتلاع ريقها ومخاطها فيهجم على قلبه من الخزي ما تمنى أن يخسف الله به الأرض حتى نسي ما جرى عليه، ولا يزال يعاود ذكره ولا ينساه أصلا بل يجد نفسه ما عملت من سوء محضرا تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، وبدنه بمعزل من هذا الخزي والألم وهو في عذاب دائم من الغثيان والقيء، ويذكر تلك المخازي، ويتحرى أن يطلع عليه أحد فيتضاعف خزيه، فإذا هو بأبيه وجميع حشمه جاءوا في طلبه واطلعوا على جميع مخازيه، فهذا حال من تمتع بالدنيا ينكشف له ذلك في الآخرة روحه وحقيقته وهو معنى قوله تعالى: وحصل ما في الصدور وهو أن يعرض عليه حاصلها وهو روحها وحقيقتها وهو معنى قوله تعالى: يوم تبلى السرائر أي: ينكشف من أسرار الأعمال وأرواحها القبيحة والحسنة وكما أن أطيب الأطعمة رجيعها أقذر وأنتن كذلك تنعمات الدنيا حاصلها وسرها في الآخرة أقبح وأفضح; ولذلك شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدنيا بالطعام وعاقبتها بالرجيع .

الصنف الثالث: حسرة فوات المحبوبات، فقدر نفسك كونك في جماعة من أقرانك دخلوا في ظلمة، فكان فيها حجارة لا ترى ألوانها فقال أقرانك: نحمل من هذا ما نطيق فلعله يكون فيه ما ينتفع به إذا خرجنا من الظلمة، فقلت: ماذا أصنع بها أتحمل في الحال ثقلها، وأكد نفسي فيها وأنا لا أدري عاقبتها ما هذا إلا جهل عظيم، فإن العاقل لا يترك الراحة فقدا لما يتوقعه نسيئة ولا يستيقنه فأخذ كل واحد من أقرانك ما أطاق وأعرضت أنت عن ذلك، وسخرت منهم لأنهم يئنون تحت أعبائه وثقله وأنت مترفه في الطريق تغدو وتضحك منهم، فلما جاوزوا الظلمة نظروا فإذا هي جواهر ويواقيت يساوي كل واحدة ألف دينار فأقبلوا على بيعها وتوصلوا بها على الجاه والنعمة، وأصبحوا ملوك الأرضين فأخذوك واستخروك لتعهد دوابهم وينفقون عليك كل يوم قدرا يسيرا من فضلات الطعام، فكيف ترى اشتعال نيران الحسرة في قلبك وبدنك بمعزل عنه؟ وكم تقول: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، ويا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، ويقول لهم: أفيضوا علينا مما أفيض عليكم فيقولون: هذا حرام عليك ألم تكن تسخر منا وتضحك علينا؟ فلا بد أن نسخر منك اليوم كما كنت تسخر منا، فلا يزال ينقطع نياط قلبك من التسخر ولا ينفعك ولكن تتسلى وتقول: الموت يخلصني من هذا كله، واعلم أن هذا الحال حال تارك الطاعات في الآخرة، وكذلك ينكشف له ولكن لا مطمع في الموت المخلص بل حسرته أبدية وألمها يتضاعف كل يوم وإن كان البدن بمعزل عنها، وعنه العبارة بقوله تعالى: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين وكذلك أن الله تعالى يفيض على أهل المعرفة والطاعة من أنوار جمال الوجه ما يحصل به اللذة مبلغا لا يوازيه نعيم الدنيا يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات كما ورد به الخبر لا بمعنى تضاعف المقدار بالمساحة بل بتضاعف الأرواح، كما أن الجوهرة تكون قيمتها عشرة أمثال الفرس لا بالوزن والمقدار بل بروح المالية; إذ قيمتها عشرة أمثاله، واعلم أن تحريم تلك الذات وإفاضتها عليهم ليس من جنس تحريم الرجل نعمته على عبده بغضب أو باختبار حتى يتصور تغير، بل هو كتحريم الله تعالى على الأبيض أن يكون أسود في حالة البياض وعلى الحار أن يكون باردا في حال حرارته وذلك لا يتصور فيه التبديل، بل مثال ذلك أن يقول للعامل الكامل رجل شيخ هرم، وهو من الجهال الذي كان بليدا في أصل الفطرة، ولم يمارس قط علما ولم يتعلم قط لغة أفض علي من دقائق علومك فيقول: إن الله تعالى حرمه على الجاهلين، معناه أن الاستعداد لقبوله إنما يكتب بذكاء فطري وممارسة طويلة للعلم بعد تعلم اللغة العربية وأمور أخر كثيرة وإذا بطل الاستعداد وفات استحالت [ ص: 412 ] الإفاضة كما يستحيل إفاضة الحرارة على البارد مع بقاء البرودة، فلا تظن أن الله تعالى يغضب عليك ويعاقبك انتقاما، ثم تخدع نفسك برجاء العفو فتقول: لم يعذبني ولم تضره معصيتي؟ بل يلزم العقاب من المعصية كما يلزم الموت من السم، واعلم أن هذه الحسرة دائمة؛ لأن منشأها تضاد صفتين لا يزول تضادهما أبدا، مثاله أن الذي تعلق بحبل في عنقه أو رجله إنما يتألم لتضاد صفتين لا لصورة الحبل والتعليق ولكن صفته الطبيعية تطلب الهوي إلى أسفل والمنع القهري بالحبل يمانع الصفة الطبيعية فيتولد الألم فيه من تمانعها فكذلك الروح الإنساني الإلهي بأصل فطرته له بحكم الطبع حنين وشوق إلى عالم العلوي عالم الأرواح وإلى موافقة الملأ الأعلى ولكن أغلال الشهوات وسلاسلها تجذبه إلى أسفل السافلين وهي شهوات الدنيا التي هي صفة عارضة قهرت الصفة الطبيعية ومنعتها عن نيل مقتضاها والألم يتولد من بينهما فالنار أيضا إنما تؤلم للمضادة فإن الملائم للتركيب بقاء الاتصال والنار تضاد الاتصال بالتفريق بالأجزاء، ولو لم تكن قد رأيت النار فحدثت بأن شيئا لطيفا لينا يماس بدنك فيؤلمك لاستنكرته وقلت: شيء لا صلابة فيه كيف يؤلمني فاعلم أن التضاد مؤلم سواء كان بسبب خارج أو داخل فإن سم العقرب يبقى بالعضو ويؤلم لفرط برودته المضادة لحرارة البدن فلا تظنن أن الآلام كلها تدخل من خارج، فإن قلت: إن العقرب إنما لدغته من خارج، فاعلم أن ألم العين وألم السن لا يقصر عنه، وإنما سببه انصباب خلط من داخل مضاد لمزاج العين والسن وليس ذلك بأهون من لدغ الحية والعقرب، فاعلم أن تضاد الصفات على القلب يؤلم القلب إيلاما لا ينقص عما يؤلم السن والعين، ومثاله في تضعيف الصفات أن البخيل المرائي إذا طلب منه عطية على ملأ من الناس عند من يريد أن يعرفوه بالسخاء يتألم قلبه لتضاد الصفتين إذ البخل يتقاضاه أن لا يعطي وحب الجاه يتقاضاه أن يعطي وقلبه بين هاتين الصفتين كشخص ينشر بمنشار نصفين، فهذا مثال حسرة الفوات وعظمها وما ينكشف من جلاله بقدر الفائت، ولا يعلمه بالحقيقة في هذا العالم بل في عالم الكشف وهو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، واعلم أن هذه الأصناف الثلاثة لها ترتيب، فالصنف الأول الذي يلقاه الميت المعذب هو حرقة فرقة المشتهيات، وذلك تنين حب الدنيا ولذلك أضيف ذلك إلى القبر وإنما يسبق هذا الآن أغلب الأشياء على قلب ميت في حال فراقه ما يفوته من الدنيا من مال وجاه ومنصب ونعمة، ثم بعد ذلك تنكشف له أرواح الأعمال وحقائقها القبيحة وذلك عند الانغمار التام في الموت بعد العهد بغشاوة صفات الدنيا فكلما كانت صفاته في الموت أشد فهو للكشف أقبل فيفيض عند ذلك خزي الفضيحة; ولذلك أضيف هذا إلى القيامة لأنه وسط بين منزلة القبر وبين دار القرار ولذلك قال الله تعالى: يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه أي: يوم القيامة، وأما حسرة فوات المحبوبات فتتولى عليه آخرا عند القرار في النار ففيها يقول: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله وذلك أن بعد العهد من الدنيا وبما يخفف عنه عذاب النزوع إليها، وطول العهد بالكشف يوجب خروجه عن خزي الافتضاح فإن صورة عذاب الخزي تكون عند هجوم الافتضاح، ثم يألف الخزي والفضيحة إلفا ما، ثم عند فتورهما قليلا تنبعث حسرة الفوت إذ يظهر جلالة الفائت نعم تبقى حسرة الفوت أخرى، ويشبه أن يكون ذلك لا آخر له وهذا كله تعرفه قطعا إذا عرفت نفسك وعرفت أنك لا تموت لكن تعمى عينك وتصم أذنك وتفلج أعضاؤك، وأما الحقيقة التي أنت بها فلا تفنى بالموت أصلا بل يتغير حالك ويبقي جميع معارفك وإدراكاتك الباطنة وشئونك وإنما يزيد تعذيبك بفراق من تحب وافتضاحك بظهور ما ينكشف في تلك الحال وتحسرك على فوات ما تعرف قدره بعد الموت لا قبله، وهذا كله مقدمات العذاب الحسي البدني وذلك أيضا حق وله ميعاد معلوم، كما وردت به الآيات والأخبار فاقنع الآن بهذا القدر، فإن هذا الكلام يكاد يجاوز حد مثل هذا الكتاب ولا بد أن يحرك سلسلة الحمقى والجاهلين ولكنهم أخس من أن يلتفت إليهم قال الله عز وجل: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ونقتصر على هذا إلى هنا سياق المصنف في آخر كتاب الأربعين الذي ختم به كتابه جواهر القرآن، والله الموفق .




الخدمات العلمية