الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه ، صلى الله عليه وسلم ، قال : يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء ، وذكر الحديث إلى أن ذكر وقت سجود المؤمنين ، قال : ثم يقول للمؤمنين : ارفعوا رءوسكم ، فيرفعون رءوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك ، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة ، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلا يعطى نوره على إبهام قدمه فيضيء مرة ويخبو مرة ، فإذا أضاء قدم قدمه فمشى وإذا أظلم قام . ثم ذكر مرورهم على الصراط على قدر نورهم ، فمنهم من يمر كطرف العين ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالسحاب ، ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ، ومنهم من يمر كشد الفرس ، ومنهم من يمر كشد الرجل حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه تجر منه يد وتعلق أخرى ، وتعلق رجل وتجر أخرى ، وتصيب جوانبه النار ، قال : فلا يزال كذلك حتى يخلص ، فإذا خلص وقف عليها ، ثم قال : الحمد لله ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحدا إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها ، فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل وقال أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الصراط كحد السيف أو كحد الشعرة ، وإن الملائكة ينجون المؤمنين والمؤمنات ، وإن جبريل عليه السلام لآخذ بحجزتي وإني لأقول : يا رب سلم سلم ، فالزالون والزالات يومئذ كثير .

فهذه أهوال الصراط وعظائمه فطول فيه فكرك ؛ فإن أسلم الناس من أهوال يوم القيامة ، من طال فيها فكره في الدنيا ، فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينك ويرق قلبك حال السماع ، ثم تنساه على القرب وتعود إلى لهوك ولعبك ، فماذا من الخوف في شيء بل من خاف شيئا هرب منه ، ومن رجا شيئا طلبه فلا ينجيك إلا خوف يمنعك عن معاصي الله تعالى ويحثك على طاعته وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة ، فقال أحدهم : استعنت بالله نعوذ بالله اللهم سلم سلم وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم ، فالشيطان يضحك من استعاذتهم كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بعد قال بلسانه: أعوذ بهذا الحصن الحصين وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه : فأنى يغني عنه ذلك من السبع ؟ وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول : لا إله إلا الله صادقا ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره ، ومن اتخذ إلهه هواه فهو بعيد من الصدق في توحيده وأمره مخطر في نفسه فإن عجزت عن ذلك كله فكن محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على تعظيم سنته ومتشوقا إلى مراعاة قلوب الصالحين من أمته ومتبركا بأدعيتهم ، فعساك أن تنال من شفاعته أو شفاعتهم ، فتنجو بالشفاعة إن كنت قليل البضاعة .

التالي السابق


(وعن ابن مسعود ) -رضي الله عنه- (أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، وذكر الحديث إلى وقت سجود المؤمنين، قال: ثم يقول: ارفعوا رءوسكم، فيرفعون رءوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلا يعطى نوره على إبهام قدمه فيضيء مرة ويخبو مرة، فإذا أضاء قدم قدمه فمشى وإذا أظلم قام .

ثم ذكر مرورهم على الصراط على قدر نورهم، فمنهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم كشد الرجل) أي: كجريه (حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه تجر منه يد وتعلق أخرى، وتعلق رجل وتجر أخرى، وتصيب جوانبه النار، قال: فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها، ثم قال: الحمد لله، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحدا إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها، فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل) .

قال العراقي : رواه ابن عدي والحاكم، وقد تقدم بعضه مختصرا. اهـ. قلت: هذا [ ص: 484 ] السياق بتمامه رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال، وقد روي بعض ذلك من قول ابن مسعود .

روى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود، وقال: يأتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويوقد أخرى .

وروى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن من المؤمنين يوم القيامة من يضيء له نوره كما بين المدينة إلى عدن أبين إلى صنعاء فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه .

وروى أحمد ومسلم والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود : آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الله الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة، فيقول: أي ربي، أدنني من هذه الشجرة . الحديث بطوله .

(وقال أنس بن مالك ) -رضي الله عنه- (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الصراط كحد السيف أو كحد الشعرة، وإن الملائكة ينجون المؤمنين والمؤمنات، وإن جبريل -عليه السلام- لآخذ بحجزتي وإني لأقول: يا رب سلم سلم، فالزالون والزالات يومئذ كثير ) .

قال العراقي : رواه البيهقي في الشعب، وقال: هذا إسناده ضعيف، قال: وروي عن زياد النميري عن أنس مرفوعا: الصراط كحد الشعرة أو كحد السيف قال: وهي رواية صحيحة اهـ .

ورواه أحمد من حديث عائشة وفيه ابن لهيعة اهـ. قلت: وروى مسلم عن أبي سعيد قال: بلغني أن الصراط أحد من السيف وأرق من الشعرة، وفي رواية ابن منده من هذا الوجه، قال سعيد بن هلال : بلغني، ووصله البيهقي عن أنس رفعه مجزوما به وفي سنده لين وقيل: إنه شعرة من جفن مالك خازن النار ولم ير له مستند، ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير أن الصراط مثل السيف وبجنبيه كلاليب أنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر.

وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه، وفيه: والملائكة على جنبيه يقولون: ربي سلم سلم، وروى ابن عساكر عن الفضيل بن عياض قال: بلغنا أن الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود وخمسة آلاف هبوط وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعر وأحد من السيف على متن جهنم لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله.

قال الحافظ في الفتح: وهذا معضل لا يثبت، قال: وعن سعيد بن هلال: بلغنا أن الصراط أرق من الشعرة على بعض الناس ولبعض الناس مثل الوادي الواسع. رواه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل، وقد ذهب بعض الناس إلى أن المراد من قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها الجواز على الصراط؛ لأنه ممدود على النار .

وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط، وقيل: الورود الدخول، وروي ذلك عن جابر بن عبد الله مرفوعا. رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويروى مرفوعا: الزالون على الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء، قال ابن الجوزي في روضة المشتاق: إذا صار الناس على طرفي الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فرط الملك الجبار جوزوا على الصراط، وليقف كل عاص منكم وظالم. فيا لها من ساعة! ما أعظم خوفها وأشد حرها! يتقدم فيها من كان في الدنيا ضعيفا مهينا ويتأخر عنها من كان فيها عظيما مكينا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- نادوا: واه محمداه! فيبادر -صلى الله عليه وسلم- من شدة إشفاقه عليهم وجبريل آخذ بحجزته، فينادي رافعا صوته: رب أمتي أمتي، لا أسأل اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي، والملائكة قيام عن يمين الصراط وعن يساره ينادون: رب سلم، وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال وينادونهم: أما نهيتم عن كسب الأوزار؟! أما أنذرتم كل الإنذار؟! أما جاءكم النبي المختار؟! اهـ .

نقله صاحب المواهب، وروى القرطبي عن ابن المبارك عن عبد الله بن سلام : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيا نبيا وأمة أمة، ويضرب الجسر على جهنم، وينادى: أين أحمد وأمته؟ فيقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته برها وفاجرها حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون في النار يمينا وشمالا ويمضي النبي -صلى الله عليه وسلم- والصالحون بعد فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم [ ص: 485 ] على الطرق على يمينك على شمالك حتى ينتهي إلى ربه فيوضع له كرسي عن يمين العرش.

وحكى القرطبي عن بعض أهل العلم: لن يجوز أحد الصراط حتى يسأل في سبع قناطر، فأما القنطرة الأولى فيسأل عن الإيمان بالله، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصا جاز، ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها مخلصا جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تاما جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل في الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى القنطرة السادسة، فيسأل عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامة جاز، ثم يسأل في القنطرة السابعة عن ظلامات الناس وليس في القناطر أصعب منها .

(فهذه أهوال الصراط وعظائمه) أي: شدائده (فطول فيه فكرك؛ فإن اسم الناس من أهوال يوم القيامة، من طال فيه فكره في الدنيا، فإن الله لا يجمع على عبد بين خوفين) كما ورد ذلك في الخبر، وتقدم في الرجاء والخوف (فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة) لا محالة (ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينيك ويرق قلبك حال السماع، ثم تنساه على القرب وتعود إلى لهوك ولعبك، فماذا من الخوف في شيء بل من خاف شيئا هرب منه، ومن رجا شيئا طلبه) كما ورد ذلك في الخبر وتقدم (فلا ينجيك) من هول ذلك اليوم (إلا خوف يمنعك من معاصي الله تعالى ويحثك على طاعته وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى) الذين عدموا جوهر العقل (إذا سمعوا) تلك (الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة، فقال أحدهم: استعنت بالله) أو المستعان بالله أو (نعوذ بالله) من تلك الأهوال أو (رب سلم سلم) أو ما أشبه هذه الكلمات (وهم مع ذلك مصرون على المعاصي ومقيمون على القبائح والزلات التي هي سبب هلاكهم، فالشيطان يضحك من استعاذتهم كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن) منيع يمكنه أن يفر من بين يديه ويتحصن بذلك الحصن (فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بعد قال بلسانه وهو قاعد في مكانه: فأنى يغني عنه ذلك من السبع؟ وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول: لا إله إلا الله صادقا) فمن قالها صادقا تحصن من تلك الأهوال وأمن شرها .

وروى ابن النجار من حديث علي : قال الله -عز وجل-: لا إله إلا الله كلامي وأنا هو، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عقابي . ورواه الشيرازي في الألقاب بلفظ: قال الله -عز وجل-: إني أنا الله لا إله إلا أنا، من أقر لي بالتوحيد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي، وروى ابن النجار من رواية عقبة بن عامر -رضي الله عنه- من قال: لا إله إلا الله، يصدق لسانه قلبه دخل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء، وروى أحمد والبيهقي من حديث معاذ : من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه دخل الجنة .

(ومعنى صدقه أن لا يكون لك مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره، ومن اتخذ إلهه هواه فهو بعيد عن الصدق في توحيده وأمره مخطر في نفسه) وهو المفهوم من خبر أبي سعيد من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة. رواه البزار والطبراني في الأوسط (فإن عجزت عن ذلك كله فكن محبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصا على تعظيم سنته ومتشوقا إلى مراعاة قلوب الصالحين من أمته ومتبركا بأدعيتهم، فعساك أن تنال من شفاعته أو شفاعتهم، فتنجو بالشفاعة إن كنت قليل البضاعة) والله الموفق .




الخدمات العلمية