الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
صفة الحوض

اعلم أن الحوض مكرمة عظيمة ، خص الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقد اشتملت الأخبار على وصفه ، ونحن نرجو أن يرزقنا الله تعالى في الدنيا علمه ، وفي الآخرة ذوقه ، فإن من صفاته أن من شرب منه لم يظمأ أبدا .

التالي السابق


(صفة الحوض)

(اعلم أن الحوض مكرمة عظيمة، خص الله به نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وقد اشتملت الأخبار على وصفه، ونحن نرجو أن يرزقنا الله تعالى في الدنيا علمه، وفي الآخرة ذوقه، فإن من صفاته أن من شرب منه لم يظمأ أبدا) .

لما فرغ المصنف من بيان أحوال الموقف من شدة الازدحام، والانضمام، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم، وتدافعهم، واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد في حرها، ويضاعف في وهجها، ولا ظل هناك إلا ظل عرش ربك، مع انضمام ذلك من حر الناس; لتزاحم الناس، واحتراق القلوب; لما غشيها من الكروب، ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثم آخر موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود، إلا حوض صاحب المقام المحمود، -صلى الله عليه وسلم- فذكر صفة الحوض، ولا شك في كونه مكرمة عظيمة، وكونه خص به نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فهو المشهور الذي لا يعرف سواه .

قال القرطبي في المفهم: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه، ويصدق به، أن الله تعالى قد خص حبيبه -صلى الله عليه وسلم- بالحوض، المصرح باسمه، وصفته، وشرابه، في الأحاديث الصحيحة الشهيرة، التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روى ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة ما نيف على الثلاثين، منهم فيالصحيحين ما نيف على العشرين، وفي غيرها بقية ذلك، كما صح نقله، واشتهرت رواته، ثم رواه عن المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرا، واجتمع على إثباته السلف، وأهل السنة من الخلف، اهـ .

ومنهم من قال: إن لكل نبي من الأنبياء حوضا هنالك، يقوم عليه كنبينا، -صلى الله عليه وسلم- ففي حديث سمرة عند الترمذي : إن لكل نبي حوضا، كما يأتي للمصنف، ورواه ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن، وزاد: وهو قائم على حوضه، بيده عصا، يدعو من عرف من أمته، ألا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا .

وروى الطبراني من حديث أبي سعيد : وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة .

فإن ثبت ما في هذه الأخبار، فالمختص بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الكوثر، الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في سورة الكوثر، كذا في الفتح، وأما ما ذكر من صفاته: أن من شرب منه لم يظمأ أبدا، فقد ثبت ذلك في أخبار الحوض، ومنه ما يأتي ذكره للمصنف .

ومن حديث أنس عند البزار : ومن شرب منه شربة لم يظمأ أبدا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا، وزاد في حديث أبي أمامة، عند أحمد، وابن حبان : ولم يسود وجهه أبدا، وفي حديث عبد الله بن عمرو : ومن شرب منه لا يظمأ أبدا.



(فصل) في تعيين محله

قال القرطبي في التذكرة: ذهب صاحب القوت وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح: أن للنبي -صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرا، وتعقبه الحافظ في الفتح بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض; ويطلق على الحوض كوثرا لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي، أن الحوض يكون قبل الصراط; لأن الناس يردون الموقف وهم عطاش، فيرد المؤمنون، وتتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب، فيقال: ألا ترون؟ فيظنونها ماء، فيتساقطون فيها .

وفي حديث [ ص: 498 ] أبي ذر مما رواه مسلم : أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، وهو حجة على القرطبي لا له; لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين الموقف والجنة، والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة; لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، وقال عياض : ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا، يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب، والنجاة من النار; لأن ظاهر حال من لم يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم، أن لا يعذب فيها بالظمإ، بل بغيره، والله أعلم .




الخدمات العلمية