الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه صفات الجنة ذكرناها جملة ، ثم نقلناها تفصيلا .

وقد ذكر الحسن البصري رحمه الله جملتها فقال : إن رمانها مثل الدلاء وإن أنهارها لمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من عسل مصفى لم يصفه الرجال وأنهار من خمر لذة للشاربين ، لا تسفه الأحلام ولا تصدع منها الرءوس وإن فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ملوك ناعمون أبناء ثلاث وثلاثين ، في سن واحد ، طولهم ستون ذراعا في السماء كحل ، جرد ، مرد قد أمنوا العذاب ، واطمأنت بهم الدار وإن أنهارها لتجري على رضراض من ياقوت ، وزبرجد وإن عروقها ، ونخلها ، وكرمها اللؤلؤ ، وثمارها لا يعلم علمها إلا الله تعالى وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة وإن لهم فيها خيلا ، وإبلا هفافة رحالها ، وأزمتها وسروجها من ياقوت يتزاورون ، فيها وأزواجهم الحور العين ، كأنهن بيض مكنون وإن المرأة لتأخذ بين إصبعيها سبعين حلة ، فتلبسها ، فيرى مخ ساقها من وراء تلك السبعين حلة قد طهر الله الأخلاق من السوء والأجساد من الموت لا يمتخطون فيها ، ولا يبولون ، ولا يتغوطون ، وإنما هو جشاء ، ورشح مسك لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا أما إنه ليس بكر الغدو على الرواح والرواح على الغدو وإن آخر من يدخل الجنة ، وأدناهم منزلة ليمد له في بصره ، وملكه مسيرة مائة عام ، في قصور من الذهب ، والفضة ، وخيام اللؤلؤ ، ويفسح له في بصره ، حتى ينظر إلى أقصاه ، كما ينظر إلى أدناه يغدى عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ويراح عليهم بمثلها ، في كل صحفة لون ليس في الأخرى، ويجد طعم آخره ، كما يجد طعم أوله وإن في الجنة لياقوتة ، فيها سبعون ألف دار في ، كل دار سبعون ألف بيت ، ليس فيها صدع ، ولا ثقب .

وقال مجاهد إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه ألف سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وأرفعهم الذي ينظر إلى ربه بالغداة والعشي وقال سعيد بن المسيب ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة ، سوار من ذهب ، وسوار من لؤلؤ ، وسوار من فضة .

وقال أبو هريرة رضي الله عنه إن في الجنة حوراء ، يقال لها العيناء ، إذا مشت مشى عن يمينها ويسارها سبعون ألف وصيفة ، وهي تقول : أين الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر وقال يحيى بن معاذ ترك الدنيا شديد ، وفوت الجنة أشد ، وترك الدنيا مهر الآخرة . وقال أيضا في : طلب الدنيا ذل النفوس ، وفي طلب الآخرة عز النفوس ، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى ، ويترك العز في طلب ما يبقى .

التالي السابق


(فهذه صفات الجنة ذكرناها) أولا (جملة، ثم نقلناها تفصيلا .

وقد ذكر الحسن) البصري (-رحمه الله تعالى- جملتها) فيما رواه ابن جرير، بسنده إليه، (فقال: إن رمانها مثل الدلاء) ، جمع الدلو، رواه ابن أبي حاتم، وابن عساكر، من حديث أبي سعيد، بلفظ: كجلد البعير المقتب، أو كجلف البعير المقتب، وتقدم قريبا .

وروي نحو ذلك في حبة العنب، فروى أحمد في مسنده، حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الجنة، هل فيها عنب؟ قال: نعم، قال: ما عظم العنقود؟ قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع، ولا يفتر، قال: فما عظم الحبة؟ قال: هل ذبح أبوك تيسا من غنمه قط عظيما؟ قال: نعم، قال: فسلخ إهابه فأعطاه أمك، وقال اتخذي لنا منه دلوا؟ قال: نعم، قال الأعرابي: فإن تلك الحبة تشبعني وأهل بيتي، قال: نعم، وعامة عشيرتك. وفي حديث سدرة المنتهى: فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال، وقد تقدم .

(وإن أنهارها لمن ماء غير آسن) ، أي: غير متغير، ليس كمياه الدنيا، ( وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ) ، أي: ذوقه، ( وأنهار من عسل مصفى ) ، أي: مخلص من الأوساخ، (لم يضعه الرجال) ، بل خلقه الله تعالى هكذا في الجنة، ( وأنهار من خمر لذة للشاربين، لا تسفه الأحلام) ، أي: لا تضعف العقول، (ولا تصدع منه الرؤس) ، كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز، فقال: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى قال تعالى: لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون والغول: الاغتيال ، أي: إن الخمر المذكور لا تغتال عقولهم، ولا تغلب عليها، وقيل: الغول: وجع البطن، وقيل: الصداع، وقيل: الإثم، وقوله تعالى: ولا هم عنها ينزفون على قراءة من فتح الزاي، هو السكر أيضا، ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم .

(وإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . رواه الطبراني من حديث سهل بن سعد، والشيخان من حديث أبي هريرة نحوه، وقد تقدم .

(ملوك ناعمون) ، رواه ابن وهب، عن الحسن مرسلا: إن أدنى أهل الجنة منزلة، الذي يركب في ألف ألف من خدمه من الولدان المخلدين، على خيل من ياقوت أحمر، لها أجنحة من ذهب، وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا .

(أبناء ثلاث وثلاثين، في سن واحد، طولهم ستون ذراعا في السماء) . رواه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة، وقد تقدم. (كحل، جرد، مرد) ، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وتقدم. (قد أمنوا العذاب، واطمأنت بهم الدار) ، وذلك قوله تعالى: إن المتقين في مقام أمين (وإن أنهارها لتجري على رضراض من ياقوت، وزبرجد) ، وبعضها على المسك الأذفر. رواه معمر، عن قتادة، عن العلاء، عن أبي هريرة، موقوفا: درجها الياقوت، ورضراض أنهارها اللؤلؤ. قاله أبو نعيم في الحلية، (وإن عروقها، ونخلها، وكرمها اللؤلؤ، وثمارها لا يعلم علمها إلا الله تعالى) . رواه ابن أبي شيبة من حديث سلمان نحوه، وقد تقدم، وروى ابن المبارك، عن ابن عباس، قال: نخل الجنة جذوعها من زمرد أخضر، وكربها من ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، وثمرها أمثال القلال، والدلاء... الحديث، وتقدم، والكرب محركة: أصول السعف .

(وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة) . رواه ابن أبي شيبة، عن مجاهد، إلا أنه قال: إنه ليوجد ريح المرأة من الحور العين، من مسيرة خمسمائة سنة، وأما ريح الجنة فقد ثبت في صحيح البخاري أنها تنشق من مسيرة أربعين عاما، وفي رواية للترمذي: من مسيرة سبعين خريفا. وفي رواية للطبراني: مسيرة مائة عام، ويحتمل هذا الاختلاف أن يكون بحسب اختلاف إدراك أهل الجنة، وتفاوت مراتبهم، فمن كان أعلى رتبة نشق من مسيرة خمسمائة عام، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم .

(وإن لهم فيها خيلا، وإبلا هفافة) ، أي: سريعة السير، (رحالها، وأزمتها) ، وهذا راجع للإبل، (وسروجها) ، وهذا راجع للخيل، (من ياقوت، يتزاورن فيها) ، بعضهم بعضا. رواه عبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، من مرسل عبد الرحمن بن سابط، وأبو الشيخ في العظمة، من حديث علي، وقد تقدم .

(وأزواجهم) فيها (الحور العين، كأنهن بيض مكنون) كما في الكتاب العزيز، (وإن المرأة لتأخذ بين أصبعيها سبعين حلة، فتلبسها، فيرى مخ ساقيها من وراء تلك السبعين حلة) .

رواه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة، ولفظ الصحيحين يرى مخ ساقيها من وراء اللحم. ورواه أحمد من حديث أبي سعيد، بلفظ: حتى يرى مخ ساقيها من [ ص: 552 ] وراء ذلك. (قد طهر الله الأخلاق من السوء والأجساد من الموت) ، كما قال تعالى: ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (لا يمتخطون فيها، ولا يبولون، ولا يتغوطون، وإنما هو جشاء، ورشح مسك) . كما رواه الشيخان، من حديث أبي هريرة وتقدم .

(لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) ، يغدى عليهم ويراح، كما هو في الكتاب العزيز، (أما إنه ليس يكر الغدو على الرواح والرواح على الغدو) ، تقدم الكلام عليه .

(وإن آخر من يدخل الجنة، وأدناهم منزلة) ، أي: بالنسبة إلى غيره، وإلا فلا أدنى في الجنة، (ليمد له في بصره، وملكه مسيرة مائة عام، في قصور من الذهب، والفضة، وخيام اللؤلؤ، ويفسح له في بصره، حتى ينظر إلى أقصاه، كما ينظر إلى أدناه) . رواه أحمد من حديث ابن عمر بنحوه، كما سيأتي قريبا .

(يغدى عليهم بسبعين ألف صحفة من الذهب، ويراح عليهم بمثلها، في كل صحفة لون ليس في الأخرى) . رواه الحاكم، وصححه عن عبد الله بن عمرو، وقد تقدم. (ويجد طعم آخره، كما يجد طعم أوله) . ورواه من أول قوله: وإن آخر من يدخل، إلى هنا، عبد بن حميد، عن عكرمة، وتقدم .

(وإن في الجنة لياقوتة، فيها سبعون ألف دار، فى كل دار سبعون ألف بيت، ليس فيها صدع، ولا ثقب) . رواه ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هرون، عن هشام، عن حميد بن هلال، عن بشير بن كعب، قال: قال كعب : إن في الجنة ياقوتة، ليس فيها صدع، ولا وصل، فيها سبعون ألف دار، في كل دار سبعون ألفا من الحور العين، لا يدخلها إلا نبي، أو صديق، أو شهيد، أو إمام عادل، أو محكم في نفسه، قال: قلنا: يا كعب، وما المحكم في نفسه؟ قال: الرجل يأخذه العدو، فيحكمونه بين أن يكفر أو يلزم الإسلام، فيقتل، فيختار الإسلام، وهذا آخر سياق الحسن البصري -رحمه الله تعالى- .

(وقال مجاهد ) -رحمه الله-: (أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه ألف سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وأرفعهم) منزلة، (الذي ينظر إلى ربه) -عز وجل- (بالغداة والعشي) . روي نحو هذا مرفوعا من حديث ابن عمر، بلفظ: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه، كما يرى أدناه، ينظر أزواجه، وخدمه، وسرره، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله تبارك وتعالى كل يوم مرتين . رواه أحمد، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم، ورواه الترمذي، والطبراني، بلفظ: إن أدنى أهل الجنة منزلة، لمن ينظر إلى جناته، وأزواجه، ونعيمه، وخدمه، وسرره، مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .

(وقال سعيد بن المسيب) -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا (ليس أحد من أهل الجنة إلا في يده ثلاثة أسورة، سوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ، وسوار من فضة) . رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة .

(وقال أبو هريرة ) -رضي الله عنه-: (إن في الجنة حوراء، يقال لها العيناء، إذا مشت مشى عن يمينها أو يسارها سبعون ألف وصيفة، وهي تقول: أين الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر) . وقد جاء ذكر العيناء في كتاب الزهد لهناد بن السري، فروى بسنده إلى ثابت البناني، قال: كنت عند أنس ابن مالك، فقدم عليه ابن له من غزاة، يقال له أبو بكر، فسأله، ثم قال: ألا أخبرك عن صاحبنا فلان؟ بينما نحن في غزاتنا، إذ ثار وهو يقول: وا أهلاه، وا أهلاه، فنزلت إليه، وظننا أن عارضا عرض له، فقلنا له، فقال: إني كنت أحدث نفسي أن لا أتزوج حتى أستشهد، فيزوجني الله من الحور العين، فلما طالت علي الشهادة، حدثت نفسي في سفري، إن أنا رجعت تزوجت، فأتاني آت في منامي، فقال: أنت القائل إن أنا رجعت تزوجت؟ قم فإن الله قد زوجك العيناء، فانطلق بي إلى روضة خضراء، معشبة، فيها عشر جوار، بيد كل واحدة صنعة تصنعها، لم أر مثلهن في الحسن، والجمال، قلت: فيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك، فانطلقت، فإذا بروضة أعشب من الأولى، وأحسن، فيها عشرون جارية، في يد كل واحدة صنعة تصنعها، ليس العشر إليهن بشيء من الحسن، والجمال، قلت: فيكن العيناء؟ قلن: لا، نحن من خدمها، وهي أمامك، فانطلقت فإذا أنا بياقوتة مجوفة، فيها سرير، عليه امرأة، قد فضل جنبها عن السرير، فقلت: أنت العيناء؟ قالت: نعم، مرحبا، وذهبت لأضم يدي عليها، فقالت: مه، إن فيك شيئا من الروح بعد، ولكن فطرك عندي الليلة، فما فرغ الرجل من حديثه، حتى نادى مناد: يا خيل الله اركبي، فجعلت أنظر إلى الرجل، وأنظر إلى الشمس، ونحن مصافو العدو، وأذكر حديثه، فما أدري أيهما بدر، رأسه، أو الشمس، سقطت أولا، فقال أنس -رحمه الله-: (وقال يحيى بن معاذ ) الرازي -رحمه الله تعالى-: (ترك الدنيا شديد، وفوت الجنة أشد، وترك الدنيا مهر الآخرة. وقال) [ ص: 553 ] -رحمه الله- (أيضا: في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الجنة عز النفوس، ويا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى، ويترك العز في طلب ما يبقى) .

قال صاحب حادي القلوب: وعلى كل حال، فأهل الجنة ملوك، وأي ملوك، كما قال الله سبحانه وتعالى: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا أفتستغلي هذا الملك بما فيه ما لا تصل إليه الأماني، ولا تبلغه الشهوات، ببذل الروح بالموت؟ لا والله، هذا والله هو المطلب الأعز، والوصل الأخص، والقرب الأنفس، كيف بك أيها المؤمن وقد أخذت مداركك كلها مآربها على حسبها، وانتهيت إلى حضرة المواصلة، ونلت منها معالي رتبها، وحصلت على رضا محبوبك عنك على الدوام، وبلغت ما لم تبلغ حصره المبالغات، ولا تحيط بكنهه الأحلام؟ لقد حق لي أن أقول:

شرا مثل هذا الوصل بالموت لا يغلو وكل عناء دون هذا المنى يحلو إذا كانت العقبى وصالا وقربة
وودا وتكريما فكل عنا سهل

اهـ .

قلت: وزاد الشيخ موفق الدين بالمحلة على هذين، فقال:

وأي عنا يبقى إذا انكشف الغطاء وقد زالت الآلام واتسع الفضل
وشاهدت من يهواه قلبي جهرة وبالأهل والأحباب قد جمع الشمل
فلست أخاف الموت كلا وإنه لقصدي من الرحمن كي يصل الوصل






الخدمات العلمية