الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل الثاني :

سؤال منكر ونكير وقد وردت به الأخبار فيجب التصديق به لأنه ممكن إذ ليس يستدعي إلا إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب وذلك ممكن في نفسه ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت ، وعدم سماعنا للسؤال له فإن النائم ساكن بظاهره ويدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلام جبريل عليه السلام ويشاهده ومن حوله لا يسمعونه ولا يرونه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء فإذا لم يخلق لهم السمع والرؤية لم يدركوه .

التالي السابق


(الأصل الثاني: سؤال منكر ونكير) وهما- كما تقدم- شخصان أسودان أزرقان مهيبان هائلان، شعورهما إلى أقدامهما، كلامهما كالرعد القاصف، وأعينهما كالبرق الخاطف، بأيديهما مقامع من حديد، قال الإمام أبو منصور البغدادي: إنما سمي الملك منكرا لأن الكافر ينكر إذا رآه، وسمي الآخر نكيرا لأنه هو الذي ينكر على الكافر فعله. وقد أنكرهما الكعبي من المعتزلة، وهو مردود عليه، كيف (وقد ورد به) أي: بالسؤال، وفي بعض النسخ: "بهما"، أي: بالمنكر والنكير (الأخبار) الصحيحة (فيجب التصديق به) ، وهل هذا السؤال عام لكل مؤمن وغيره، أو مختص بمن يغلب عليه منكر من عمله، أو نكير من قلبه؟ والأول عليه جمهور العلماء، والثاني قول بعض علماء المغرب، وعليه يعتمد سيدي أبو الحسن الحراني، أما الأخبار فأخرج الترمذي- وصححه- وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا قبر الميت- أو قال: أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان [ ص: 217 ] يقال لأحدهما المنكر، والآخر النكير.."، الحديث، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان، فيقعدانه..."، الحديث، وفي رواية البيهقي: "أتاه منكر ونكير.."، وغيرهما من الأخبار التي صحت، أخرجها أصحاب السنن والمسانيد، ما بين مطولة ومختصرة، من رواية غير واحد من الصحابة (لأنه ممكن) أي: هو من مجوزات العقول، والله تعالى مقتدر على إحياء الميت، وأمر الملك بسؤاله عن ربه، ورسوله، وكل ما جوزه العقل وشهد به السمع لزم الحكم بقبوله .

وذهب الجهمية والخوارج أن إحياء الأموات لا يكون إلا في القيامة، وهؤلاء منكرون عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، وإلى هذا القول ذهب ضرار بن عمرو، وبشر المريسي والكعبي، وعامة المعتزلة، والنجارية، وقال ضرار: المنكر هو العمل السيئ، ونكير هو النكير من الله تعالى على صاحب العقل المنكر. وقالوا: إن ذلك يقتضي إعادة الحياة إلى البدن; لفهم الخطاب، ورد الجواب، وإدراك اللذة والألم، وذلك منتف بالمشاهدة .

وقد شرع المصنف في الرد عليهم بقوله: (إذ ليس يستدعي ذلك إلا إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب) ورد الجواب، والإنسان قبل موته لم يكن يفهم بجميع عمومنا، بل الخبرة من باطن قلبه (وذلك) أي: إحياء جزء يفهم الخطاب، ويجيب (ممكن في نفسه) مقدور، وأمور البرزخ لا تقاس بأمور الدنيا .

ثم شرع المصنف في الرد على منكري السؤال وعذاب القبر، فقال: (ولا يدفع ذلك بالشاهد من سكون أجزاء الميت، وعدم سماعنا للسؤال له) تقرير السؤال أن اللذة والألم والتكلم كل منها فرع الحياة والعلم والقدرة، ولا حياة بلا بنية; إذ هي قد فسدت، وبطل المزاج، وإن الميت نراه ساكنا لا يسمع سؤالنا إذا سألناه، ومنهم من يحرق فيصير رمادا وتذروه الرياح، فلا تعقل حياته وسؤاله. والجواب أن هذا مجرد استبعاد خلاف المعتاد، وهو لا ينفي الإمكان; فإن ذلك ممكن، إذ لا يشترط في الحياة السمة، ولو سلم جاز أن يحفظ الله تعالى من الأجزاء ما يأتي به الإدراك، ولا يمتنع ألا يشاهد الناظر منه ما يدل على ذلك (فإن النائم ساكن بظاهره و) هو مع ذلك (يدرك بباطنه من الآلام) واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه، كألم ضرب رآه بعد استيقاظه من منامه، وخروج مني من جماع رآه في منامه (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلام جبريل عليه السلام ويشاهده و) الحال أن (من حوله) من الصحابة أو من هو مزاحمه في مكانه، كعائشة رضي الله عنها، إذ كانت معه بفراش واحد (لا يسمعونه ولا يرونه) ، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: "يا عائشة، هذا جبريل يقرئك السلام". فقلت: وعليه السلام، ترى ما لا أرى. قال العراقي: وهذا هو الأغلب وإلا فقد رأى جبريل جماعة من الصحابة منهم عمر وابنه عبد الله وكعب بن مالك وغيرهم اهـ. وهذا الذي ذكره من سماع السؤال ورد الجواب رأي لم يشاهد، وإنما قلنا به لأن الإدراك والإسماع بخلق الله تعالى، وقد قال الله تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء (فإذا لم يخلق لهم) أي: لبعض الناس (السمع والرؤية لم يدركوه) كما دل عليه قوله تعالى السابق ذكره .



(تنبيه)

والأصح أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يسألون في قبورهم; لعلو مقامهم المقطوع لهم بسببه بالسعادة العظمى، ولعصمتهم، وكذلك الشهداء، كما في صحيح مسلم وسنن النسائي، وكذلك أطفال المؤمنين; لأنهم مؤمنون غير مكلفين، واختلف في سؤال أطفال المشركين ودخولهم الجنة أو النار، فتردد فيهم أبو حنيفة وغيره، فلم يحكموا فيهم بسؤال ولا بعدمه، ولا بأنهم من أهل الجنة ولا من أهل النار، وقد وردت فيهم أخبار متعارضة بحسب الظاهر، فالسبيل تفويض أمرهم إلى الله تعالى; لأن معرفة أحوالهم في الآخرة ليست من ضروريات الدين، وليس فيها دليل قطعي، وقد نقل الأمر بالإمساك عن الكلام في حكم الأطفال في الآخرة مطلقا عن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وغيرهما .

وضعف صاحب الكافي رواية التوقف عن أبي حنيطة، وقال: الرواية الصحيحة عنه أن أطفال المشركين في المشيئة; لظاهر الحديث الصحيح: "الله أعلم بما [ ص: 218 ] كانوا عاملين".

وقد حكى الإمام النووي فيهم ثلاثة مذاهب، الأكثر: أنهم في النار، والثاني: التوقف، والثالث الذي صححه: أنهم في الجنة; لحديث: "كل مولود يولد على الفطرة.."، وحديث رؤية إبراهيم عليه السلام ليلة المعراج في الجنة، وقوله: "أولاد الناس..".

وفي أطفال المشركين أقوال أخرى ضعيفة، لا نطيل بذكرها، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية