الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب عذب. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول في كتابه: فسوف يحاسب حسابا يسيرا [سورة الانشقاق: 8] ، فقال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب.

ومعلوم أن قوله: فسوف يحاسب حسابا يسيرا [سورة الانشقاق: 8] ، لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش، بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة، ومع هذا فلما قال: من نوقش الحساب عذب، فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه، وأبوها أحب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت. [ ص: 49 ]

وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال: والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة. قالت حفصة: فقلت يا رسول الله: أليس الله يقول: وإن منكم إلا واردها [سورة مريم: 71] .

فقال: ألم تسمعيه قال: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [سورة مريم: 72].


وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط، ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار، لم يكن قوله لهم: فلان لا يدخل النار منافيا لهذا العبور، ولهذا قال لها: ألم تسمعيه قال: ثم ننجي الذين اتقوا فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به، فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار.

ولفظ "الورود" و "الدخول" قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار: أنه دخلها ووردها، وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها: إنه لم يدخلها. فإذا قيل: فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه، وقيل فلان: لم يدخله الله إياه، كان كلا الخبرين صدقا لا منافاة بينهما.

وقوله تعالى: [ ص: 50 ]

وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [سورة مريم: 71-72] ، فيه بيان نعمة الله على المتقين: أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها، والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم.

ولهذا قال تعالى: ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [سورة الأنبياء: 76] .

ومعلوم أن نوحا لم يغرق ثم خلص، بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره.

كما قال: فأنجيناه وأصحاب السفينة [سورة العنكبوت: 15] .

وكذلك قوله عن لوط: ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث [سورة الأنبياء: 74] .

ومعلوم أن لوطا لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار.

وكذلك قوله: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ [سورة هود: 58] ، وقوله: فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ [سورة هود: 66] . [ ص: 51 ]

وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم، وكانوا معرضين له، لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك.

فلفظ "النجاة من الشر" يقتضي انعقاد سبب الشر، لا نفس حصوله في المنجى.

فقوله تعالى: ثم ننجي الذين اتقوا [سورة مريم: 72] ، لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا، لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه، وهذا هو الورود.

فقوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، لا ينافي هذا الورود، فإن مجرد الورود ليس بعذاب، بل هو تعريض للعذاب، وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب، لم ينف التقريب من العذاب، ولا انعقاد سببه، ولا الدخول على سطح مكان العذاب.

ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته، سألته عن ذلك، وذكرت ما يعارض خبره في فهمها، ولم تسكت، وقد كان يفعل الأمر فيسألونه: هل هو بوحي فيجب طاعته؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر، فيقبل منهم ويوافقهم، كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته: أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الرأي [ ص: 52 ] والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: ليس هذا بمنزل قتال.

ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب: من قريش وحلفائها، وأهل نجد وجموعهم، وبني قريظة اليهود جيران المدينة، وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة، وفيها أنزل الله سورة الأحزاب، فلما صالحهم على نصف ثمرها. قال له سعد ما مضمونه: إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا، وإن كان رأيا منك أردت به مصلحتنا، فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرى أو قرى، فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا؟ أو كما قال: فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم، فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر، فإذا كنتم ثابتين صابرين، فلا حاجة إلى هذا.

وفي الصحيح أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم، فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك، وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعو فيها [ ص: 53 ] بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم، ففعل ذلك .

وكذلك في الصحيح أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة، فلقيه عمر فرده، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا، فترك ذلك .

بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته، فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة، فيجيبهم. فإن في الصحيح أنه نهاهم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.

ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة، لو أوردها بعض طلبة الفقهاء، أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه، وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه، وإن كان بعض الناس [ ص: 54 ] ينازع في الأمر المطلق: هل يفيد الإيجاب أم لا؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته، ولا أنه إذا صرح ابتداء بالإيجاب تجب طاعته.

ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق: هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب؟ فهذا نزاع في العلم بمراده، لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب، فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به.

والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة، وأما فعله فقد يكون مختصا به باتفاق الأمة.

بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره، على ما هو معروف، فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمرا ونهيا علموا به مراده، لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء، وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل، إذا لم يعلموا مراده بالقول، كما تكلموا في نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول، مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى.

فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاما بل خاص إذا لم يكن حائل، ويوفق بين القول والفعل، ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار، ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض، [ ص: 55 ] ويظن بعضهم أن الفعل خاص له، فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم. وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ، كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله. فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله: إنك تواصل، كانت معارضته خطأ، باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق، وقال: إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.

بل لما غير عادته يوم الفتح، فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله.

فقال: عمدا فعلته.

هذا وأمثاله كثير. هذا من المؤمنين به المحبين له، فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة.

مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [سورة الأنبياء: 98] ، فقام ابن الزبعرى وغيره فقالوا: قد عبد المسيح، فآلهتنا خير أم هو؟ .

فأنزل الله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون [سورة الزخرف: 57] : أي: يضجون.

وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم [ ص: 56 ] خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل [سورة الزخرف: 58-59] .

وأنزل الله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [سورة الأنبياء: 101-102] .

وقد ظن طائفة من الناس أن قوله وما تعبدون [سورة الأنبياء: 98] ، لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة، فيتناول المسيح وغيره، وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصولة، مثل (من) و (ما) و (الذي) . واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

قالوا: لأن اللفظ عام، وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [سورة الأنبياء: 101] .

وهذا خطأ، ولو كان قول هؤلاء صحيحا، لكانت معارضته المشركين صحيحة. فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص، فأورد على المتكلم، كان إيراده مستقيما.

وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن بالمشركين. ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردودا بآرائهم، كما رده المشركون بالمسيح، فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار، كلام صحيح، أصح مما يعارض به المعارضون لكلام الله ورسوله. [ ص: 57 ]

فإذا كانت معارضة ابن الزبعرى باطلة، فمعارضة هؤلاء أبطل، وهي باطلة قبل نزول القرآن، وقبل رد الله عليهم، وما نزل من القرآن كان مبينا لبطلانها، الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل، فإن الله إنما خاطب بقوله: إنكم وما تعبدون من دون الله [سورة الأنبياء: 98] ، المشركين الذين يعبدون الأوثان، لم يخاطب بذلك أهل الكتاب.

بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقا، وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين، ففي السور المدنية.

والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع، كقوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين [سورة البينة: 1] .

وقوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا [سورة الحج: 17] .

وقوله لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله [سورة الأنبياء: 98] .

بمنزلة قوله: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين [سورة الأنعام: 156] . [ ص: 58 ]

وبمنزلة قوله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا [سورة فاطر: 42] .

وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب، وهو متناول لأولئك المشركين، لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين.

فلما قال تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [سورة الأنبياء: 98-99] ، دليل على انتفاء الإلهية، فإن الإله لا يدخل النار، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلها، فمن ورد النار لم يكن إلها، وليس كل من لا يردها إله.

لكن كانت معارضة الزبعرى وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار، أي إذا كانت آلهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين، وجب أن يكون كل معبود يدخل النار، والمسيح معبود فيجب أن يدخلها، فعارضوه بالقياس، والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد، فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله، لا يصلح [ ص: 59 ] أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان، فإنها حجارة، فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة، وانتقاما ممن عبدها، كان ذلك مصلحة، ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب.

ولهذا قال تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا [سورة الزخرف: 57] ، أي جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوها به، فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد، وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة، فيقولون: لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستويا على عرشه، للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستويا على العرش، ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث، وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه.

فهذا من جنس معارضة ابن الزبعرى، حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله، بل بينهما فرق، والفرق بين الله وبين مخلوقاته، أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان، فإن كلاهما مخلوق لله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية