الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى: طائع وكاره، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم، إلا عن السدي في تفسيره.

قال السدي في قول الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم [سورة الأعراف:172]. قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة، قبل أن يهبطه من السماء، مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. [ ص: 423 ]

فذلك قوله: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال. ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم قالوا بلى [سورة الأعراف:172]. فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين، على وجه التقية. فقال هو والملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل [سورة الأعراف:172-173] ، فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه. وذلك قوله عز وجل: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها [سورة آل عمران:83] ، وذلك قوله: فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [سورة الأنعام:149]: يعني يوم أخذ الميثاق.

فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله، فإذا كانوا ولدوا على هذه الفطرة فقد ولدوا على المعرفة، ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة، بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها، وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية، مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر، ومثل هذا لا يوثق به. فإن هذا في مثل تفسير السدي، وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها، إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل، إن كانت أخذت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل، [ ص: 424 ] لاسيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار.

وقول الله تعالى: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها [سورة آل عمران:83] ، إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لم يقل: إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها. يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليها عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال: لم أقل ذلك طوعا بل كرها، فلا تقوم عليه به حجة.

التالي السابق


الخدمات العلمية