الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: مضمون هذا الكلام إثبات ما في الموجودات من الحكمة والغاية المناسبة لاختصاص كل منها بما خص به، وأن ارتباط بعض الأمور ببعض قد يكون شرطا في الوجود، وقد يكون شرطا في الكمال. وبإثبات هذا أخذ يطعن في حجة أبي المعالي وأمثاله، ممن لا يثبت إلا مجرد المشيئة المحضة التي تخصص كلا من المخلوقات بصفته وقدره.

فإن هذا هو قول طائفة من أهل الكلام، كالأشعرية والظاهرية، وطائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة.

وأما الجمهور من المسلمين [ ص: 111 ] وغيرهم، فإنهم -مع أنهم يثبتون مشيئة الله وإرادته- يثبتون أيضا حكمته ورحمته.

وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية، وهم يلزمهم من التناقص ما هو أعظم من ذلك، فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية، كما هو قول جمهور المسلمين، فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى، فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى.

فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار، ويقولون: إنه علة موجبة للمعلول بلا إرادة، كان هذا في غاية التناقص. ومن سلك طريقة أبي المعالي في هذا الدليل، يحتاج إلى أن ينفي الحكمة، بل يمكنه إذا أثبت الحكمة المرادة أن يثبت الإرادة بطريق الأولى.

وحينئذ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض، دال على مشيئة فاعله، وعلى حكمته أيضا ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه.

وإذا كان كذلك فقولنا: إن ما سوى هذا الوجه جائز يراد به أنه جائز ممكن من نفسه، وأن الرب قادر على غير هذا الوجه، كما هو قادر عليه. وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصصت بعض الممكنات المقدورات دون بعض. [ ص: 112 ]

فهذه المقدمة التي ذكرها أبو المعالي مقدمة صحيحة لا ريب فيها، وإنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية، وقد ذكر الكلام عليها في غير هذا الموضع، وهو أن التخصص للممكنات ببعض الوجوه دون بعض: هل يستلزم حدوثها أم لا؟

قال ابن رشد: (وقد نجد ابن سينا يذعن إلى هذه المقدمة بوجه ما. وذلك أنه يرى أن كل موجود ما سوى الفاعل فهو إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز، وأن هذه الجائزات صنفان: صنف هو جائز باعتبار فاعله. وصنف هو واجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته، وأن الواجب بجميع الجهات هو الفاعل الأول).

قال: وهذا قول في غاية السقوط، وذلك أن الممكن في ذاته وفي جوهره، ليس يمكن أن يكون ضروريا من جهة فاعله، وإلا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري فإن قيل: إنما نعني بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله مرتفعا ارتفع هو. قلنا: هذا الارتفاع مستحيل لازم عن مستحيل وهو ارتفاع السبب الفاعل، وليس هذا موضع الكلام في هذا الرجل، ولكن [ ص: 113 ] للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجزنا القول هنا معه).

التالي السابق


الخدمات العلمية