الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم، يقولون: أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأنه القديم، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم. ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك، فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم؟

وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك، وكل حادث مسبوق بحادث، مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور، حصل مقصودكم.

وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، أو فاعلا لما يشاء، لم يناقض هذا كون العالم مخلوقا له، فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام، كما أخبرت بذلك الرسل، والله خالق كل شيء، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم.

ويقول لهم منازعوهم: أنتم أردتم إثبات حدوث العالم، وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطا في حدوثه، بل وشرطا في العلم بالصانع، فكان ما ذكرتموه مناقضا لحدوث العالم، وللعلم بحدوثه، وللعلم بإثبات الصانع.

وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها، وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحدث المحدثات لم يفعل شيئا من الأفعال ولا الأقوال، بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم، ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية [ ص: 150 ] لها في الأزل، ثم حين أحدثها هو على ما كان عليه قبل ذلك، فحدث من غير تجدد شيء أصلا.

فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث الحوادث بلا سبب، ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة، حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل.

وقلتم: يجب أن يكون جنس كلامه حادثا بعد أن لم يكن، بل أن يكون مخلوقا في غيره، لا قائما بذاته، أو أنه يتكلم بمشيئته وقدرته.

وقلتم: لا يمكنه أن يحدث شيئا إن لم يمتنع دوام الفعل منه، فلا يكون قادرا متكلما، إلا بشرط أن لا يكون كان قادرا فاعلا متكلما.

وقلتم: لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث، ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان، فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط، وبدلتم القضايا العقلية، كما حرفتم الكتب الإلهية.

ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم، وزادوا القضايا العقلية تبديلا وإفسادا، وزادوا في الكتب الإلهية تحريفا وإلحادا، وصار أصل الأصول عندكم الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله، وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة، أتباع السلف والأئمة، ومن غير أهل القبلة - هو قولكم: إذا كان كل واحد من الحدوث له أول، استحال ألا يكون لمجموعها أول؛ لأنها ليست سوى آحادها. [ ص: 151 ]

والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد، وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة. وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد، فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم، وليس الجسم جوهرا فردا، بل المجموع من أفراد، وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد.

وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان، وليس كل عضو منه إنسانا. وكذلك كل من الشمس والقمر، والشجر والثمر، وغير ذلك من الأجسام المجتمعة، لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها.

والإنسان حي سميع بصير متكلم، وليس كل واحد من أبعاضه كذلك. فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائما باقيا، أن يكون كل من أفراده دائما؟

التالي السابق


الخدمات العلمية