الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر إنساني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ لحركة الجميع فهذا كلامهم.

قلت: وقد عرف أنه لم يبين، إن سلم له ما ذكره من المقدمات، إلا أنه لا بد للحركة من محرك، ولم يبين بعد أن المحرك لا يتحرك، ولا أن المحرك للأجسام أمر منفصل عنها.

فقال في بيان ذلك: ولأنه ليس يلزم أن يكون كل عدم أقدم بالزمان من الوجود، فيما علة وجوده شيء غيره، ولا كل الأنظام أقدم من النظام، ولا كل بسيط أقدم من المركب؛ لأنه ليس كل ما كان تقدمه لغيره، فإن قوام غيره به وبسببه، أو وجود غيره عنه، وجب أن يكون متقدمه في الزمان، وكذلك ما يقول أرسطوطاليس: إن الأفضل في المبدأ الأول ما يوجد الأمر عليه، من أنه علة وجود كل موجود، وسبب بقاء كل باق منذ الأبد، من غير أن يكون إنما صار كذلك في زمان، وبعد أن لم يكن كذلك؛ إذ ليس موجود ولا شيء له بقاء إلا به. [ ص: 279 ]

وقال: وذلك أنه لم يزل، ولا وجود ولا قوام للفلك ولسائر الأجسام الطبيعية إلا بالمبدأ الأول، يعني المحرك الأول؛ إذ صورة كل واحد منها هي حركته الخاصة به، وحركته الخاصة به هي المقومة لجوهره، التي بارتفاعها يرتفع وجوده. فإذن المحرك الأول علة وجود هذه الحركة.

قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود العالم في زمان.

فيقال له: أنت لم تذكر إلا أنه لا وجود للجسم المتحرك إلا بحركته، وهذا إذا سلم لك لم يدل على أنه مبدع وفاعل له أصلا، بل ولا يثبت أن له غاية منفصلة عنه، بل ادعيت ذلك دعوى. نعم: إذا ثبت أن الحركة إرادية فلا بد لها من مراد، أما أن كون المراد منفصلا عن المتحرك أو غير منفصل، فهذا يحتاج إلى دليل ثان ولم تبينه، ثم إذا بينته يلزم افتقار المتحركات إليه، وكونه شرطا في وجودها لا يقتضي كونه مبدعا لها وفاعلا لها؛ إذ مجرد العلة الغائية من هذه الجهة، لا تكون هي الفاعلة المبدعة بالضرورة واتفاق العقلاء، وهم لم يدعوا ذلك.

لكن لو قال قائل غيرهم بجواز أن يكون الأول غاية وفاعلا، قلنا: نعم، لكن هذا ينقض ما بنوه من حيث يكون فاعلا للحوادث مبدعا لها، وهم يأبون ذلك، حيث يكون فيه جهتان: جهة كونه مرادا محبوبا، وجهة كونه فاعلا مبدعا. وهذا إذا قيل: إنه حق، أفسد أصولهم ومذهبهم.

والمسلمون لا ينكرون أن يكون الله رب كل شيء وإلهه، فهو من [ ص: 280 ] جهة كونه ربا هو الخالق المبدع الفاعل، ومن جهة كونه إلها هو المعبود المألوه المحبوب.

لكن هذا القول الذي يقوله المسلمون ينقض قولهم ويبطله، فثبت بطلان قولهم على ما ذكروه، وعلى ما يقوله المسلمون.

فتبين أن قوله: (إن الأفضل في الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود) كلام مبني على محض الدعوى والكذب.

التالي السابق


الخدمات العلمية