الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ثم يقال له: البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلا؟ أم إلى تعيين المراد؟ أما الأول فهم متفقون عليه. وأما تعيين المراد فليس مستفادا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان؛ إنما يعرف [ ص: 99 ] من حيث يعرف مراد المتكلم، فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان. والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط، لا يبين ما هو المراد؟ والرد على هؤلاء يطول، فليس هذا موضع استقصائه.

وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر، وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم، حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته، وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء [و ] ورثة الأنبياء؛ مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سفسطائية من شر المقاييس [ ص: 100 ] السفسطائية؛ فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات، والقرمطة في الشرعيات. وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف، ولهذا كان ابن [ ص: 101 ] سينا وأمثاله منهم، وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين، قال: ولذلك اشتغلت بالفلسفة.

ثم قال: (وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين، يقع فيه شك، فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله، ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء لعواصة هذا الصنف واشتباهه، [ ص: 102 ] والمخطئ في هذا معذور -أعني من العلماء-.

فإن قيل: فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله؟ فنقول: إن هذه المسألة الأمر فيها أنها من الصنف المختلف فيه، وذلك أنا نرى أقواما ممن ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: إن الواجب حملها على ظاهرها؛ إذا كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية، وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافا كثيرا، وفي هذا الصنف [ ص: 103 ] أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة، ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه، ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورا، والمصيب مشكور، أو مأجور، وذلك إذا اعترف بالوجود [ ص: 104 ] وتأول فيها نحوا من أنحاء التأويل -أعني في صفة المعاد- لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود، وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرا؛ لأنه في أصل من أصول الشريعة، وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود. وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر؛ لأنه يؤدي إلى الكفر، لذلك نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر؛ لأنه يؤدي للكفر، والداعي إلى الكفر كافر، ولهذا يجب أن لا تثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين؛ لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان. فأما إذا ثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية [ ص: 105 ] والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل إنما قصد خيرا، وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكن كثر بذلك أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم، وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الشريعة، وقوم إلى الجمع بينهما، ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه، والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه، هو مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، كما قيل: [ ص: 106 ]

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدناني

والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم، كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلا لها ).

قلت: أما عده أبا حامد ممن لا يقر بمعاد الأبدان، فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه ما نسب لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب [ ص: 107 ] فيه أنه لم يستمر على ذلك، بل رجع عنه قطعا، وجزم بما عليه المسلمون من القيامة العامة كما أخبر به الكتاب.

وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق، [ ص: 108 ] فإن انتحال الحلية أو القول ظاهرا ليس بأعظم من انتحال الإسلام، وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون، فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح [ ص: 109 ] لها".

فأما "شيوخ الصوفية " المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق: مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبد الله [ ص: 110 ] التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبي العباس بن عطاء، بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن [ ص: 111 ] السلمي وأمثال هؤلاء فحاش لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب؛ بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات، فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات وانشقاقها، نعم يوجد في المتحلين بحلية الصوفية من يعتقد أنواعا من الاعتقادات كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم. وهذا [ ص: 112 ] الرجل قد ذكر أصناف الأمة في الأمور الإلهية الذين سماهم "حشوية" و"الأشعرية" و"المعتزلة" و"الباطنية"، وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ما ذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات. فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم، وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية، كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين [ ص: 113 ] والفقهاء، ولعل شبهتهم في ذلك مع ما حكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون: علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن؛ ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإبهام؛ فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا: علم الباطن، أو علوم الباطن، ونحو ذلك فهم لا يريدون بذلك ما يناقض الظاهر؛ بل هم متفقون على أن من ادعى باطنا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق، وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان -الذي هو قلبه- بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ما هو [ ص: 114 ] كله تحقيق، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.

التالي السابق


الخدمات العلمية