الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقد بينا في غير هذا الموضع أن ما يذكرونه من المجردات المفارقات إنما أصله ما تصوروه من الكليات الذهنية المجردة [ ص: 265 ] عن المحسوسات / العينية فتخيلوا ما في الذهن ثابتا في الأعيان كما تخيل قدماؤهم -كأصحاب أفلاطون- أن الكليات ثابتة في الخارج أزلية، وهي المثل الأفلاطونية، وتخيلوا وجود هيولى مقارنة للصورة ومدة وراء حركة الأجسام، وتخيل غير هؤلاء -كأصحاب فيثاغورس- وجود أعداد خارجة عن المعدودات وتخيل أرسطو وأصحابه -وهو صاحب التعاليم- تركيب الجسم من مادة وصورة وأن المادة [ ص: 266 ] شيء موجود تختلف عليه صورة الأجسام وهي عند التحقيق ترجع إلى تقدير ذهني لا حقيقة له في الخارج، وكذلك تخيله أن حقائق الأنواع الكلية ثابتة في الأعيان الخارجية وأنها غيرها، وكل هذا لأن الذهن يجرد العقول عن المحسوس، والمعقولات أمور كلية ثابتة في الذهن، والذهن يجردها تجريدا بعد تجريد، كما يجرد العدد عن المعدود، والأنواع عن الأشخاص، والأقدار عن المقدورات، ومن هذا الباب تجريده للكليات الخمسة. فمن تخيل أن المجردات أمور ثابتة في الخارج كان نسبتها كمن رأى صورة في المرآة فظن تلك الصورة التي يراها في نفس المرآة موجودة في الخارج، فجاء ليمسها أو لينالها كما ينال الصورة المحسوسة فلم يجد شيئا.

ولا ريب أن هؤلاء وسائر الذين كفروا كما قال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [ ص: 267 ] [النور: 39-40]، فالمثل الأول نسبة الجهل المركب والكفر المركب كالاعتقادات الفاسدة كاعتقاد هؤلاء.

والثاني: نسبة الجهل البسيط والكفر البسيط كحال من لم يعتقد منهم شيئا أو تعارضت عنده الاعتقادات، وصار حيران لا يرى حقا، وإذا تأمل العاقل كلامهم فيما يثبتونه من العقول المجردة المفارقة علم أنهم أخذوا ذلك عن المجردات المعقولة لنا، وتلك الأعراض قائمة في أنفسنا، وهم يجعلون تلك المفارقات جواهر روحانية، بل هي عندهم أشرف الموجودات، ومن يجمع بين كلامهم وبين ما جاءت به الرسل يجعل هذه المجردات -التي هي في الحقيقة خيالات- ملائكة الله التي أخبرت بها الرسل، وقد بينا في غير هذا الموضع أن من نزل الملائكة على ما يدعيه هؤلاء من هذه المجردات كان من أجهل الناس وأكفرهم، فإنه قد ذكر من أصناف الملائكة وأوصافهم ما تبين أنه أبعد الأشياء عن هذه، ولهذا يصيرون إلى جعل الملائكة قوى في النفس صالحة كما يجعلون [ ص: 268 ] الشياطين كذلك، ومن سمع ما أخبر الله به في القرآن والسنة عن الملائكة والشياطين علم أن بين هذا وهذا من الفرق ما لا يخفى على أدنى الناس علما بما جاءت به الرسل.

التالي السابق


الخدمات العلمية