الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما استثناء الله قوم يونس فهو حجة في المسألة ، فإن الله قال : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي [يونس :98] ، وقوله : إلا قوم يونس استثناء منقطع ، وهم قد سلموا أنه منقطع ، ودليل ذلك أنه منصوب ، ولو كان مثبتا لكان مرفوعا في اللغة المشهورة ، كما في قوله : ما فعلوه إلا قليل منهم [النساء :66] ، فلما قال : إلا قوم يونس كان منقطعا ، كالاستثناء في قوله : فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم [هود :116] ، فإنه منقطع . وكذلك أهل العربية والتفسير قالوا : هو استثناء منقطع ، والمعنى : لكن قليلا ممن أنجينا [ ص: 371 ] منهم من نهى عن الفساد . وقال مقاتل : لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك ، إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب مع الرسل .

ومما يبين ذلك أن قوله : فلولا بمعنى فهلا ، وهي كلمة تحضيض على المذكور وذم لمن لم يفعله ، والمعنى : فهلا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ؟ كما قال : فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض [هود :116] ، أي لم لا كان فيهم من ينهى وفي القرى من آمن فنفعه إيمانه ؟ وهذا يقتضي أن أهل القرى لو آمنوا لنفعهم إيمانهم كما نفع قوم يونس ، لكن لم يؤمنوا . وعلى ما قاله المنازعون يكون معنى الآية : ما آمنت قرية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ، أو ما آمن أحد عند رؤية العذاب فنفعه إيمانه إلا قوم يونس . فبهذا فسروا القرآن ، وليس هذا مراد الله ، فإن الله لم يخبرنا أن غير قوم يونس آمنوا وما نفعهم إيمانهم ، وأن الإيمان لم ينفع إلا قوم يونس . بل مقصوده أنه لم يؤمن وينتفع بإيمانه من أهل القرى إلا قوم يونس .

وأيضا فإن هذا المعنى يقال فيه : فما قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس بصيغة النفي والسلب ، لا يقال : فهلا كانت قرية آمنت بصيغة التحضيض والطلب والاستدعاء والتوبيخ والملام على ترك الإيمان ، [ ص: 372 ] فإن هذه الصيغة أصل وضعها هو للتحضيض لا للنفي ، ولهذا قد يفعل المحضوض عليه بعد التحضيض ، كما يفعل بعد الأمر ، كما قال تعالى : ويقول الذين آمنوا لولا نزلت [محمد :20] ، ثم قال : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم [محمد :20] ، فأين هذا من هذا ؟ أين إخباره بأنهم آمنوا ولم ينفعهم إيمانهم من كونه وبخهم وذمهم على أنهم لم يؤمنوا فينتفعوا بالإيمان ؟

ولهذا كان الاستثناء بعده منقطعا ، ولو كان نفيا وسلبا لكان الاستثناء معه متصلا ، كقوله : ما فعلوه إلا قليل منهم [النساء :66] ، فلما قطع الاستثناء ونصب المستثنى علم أنه استثناء من نفي وسلب ، لكن الكلام تحضيض ، فلو اتصل الاستثناء لكان المعنى تحضيضهم على الإيمان إلا قوم يونس ، وتحضيضهم على النهي عن الفساد إلا القليل . وهذا يوجب قلب المعنى ، فإن الله يحض الجميع على الإيمان وعلى النهي عن الفساد ، لكن لما ذكر صيغة للحض العام بين أن هؤلاء وهؤلاء فعلوا ما حضوا عليه ، فلا يتناولهم الذم ، فإن الاستثناء المنقطع قد يكون من الجنس المشترك بين المستثنى والمستثنى منه ، كما في قوله : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء :157] ، فاتباع الظن مستثنى من المعنى العام المشترك بين العلم والظن ، وهو الاعتقاد ، فإنه لما قال : ما لهم به من علم بقيت النفس تطلب : فهل عندهم شيء من الاعتقاد ؟ [ ص: 373 ] فيقال : ما عندهم إلا اتباع الظن .

وكذلك قوله : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [الدخان :56] ، فإنه استثناء من المعنى المشترك بين الجنة والدنيا ، فلما قال : لا يذوقون فيها الموت بقيت النفس تطلب : هل ذاقوه في غيرها ؟ فقال : لم يذوقوا إلا الموتة الأولى . وكذلك نظائره .

وقد يكون أخص من المستثنى منه ، فلما قال : فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية [هود :116] ، و فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها [يونس :98] ، كان هذا تحضيضا للجمع ، والتحضيض أمر مؤكد يقتضي ذم من لم يفعل المأمور وعقابه ، ونفس الحض والأمر لا يستلزم الخبر ، فإن المأمور لم يفعل ما أمر به ، بل قد يفعله وقد لا يفعله ، وإذا لم يفعله استحق الذم والتوبيخ . وقد يكون في المحضوضين من فعل ، فلما ذكر التحضيض والفاعل مستثنى من التوبيخ لا مستثنى من الحض ، فلو قال : إلا قليل و إلا قوم يونس لكان هذا استثناء من التحضيض ، وليس كذلك ، وإنما هو استثناء من أخص منه وهو التوبيخ ونفي الفعل ، فإنه لما حض الجميع كأنه قيل : فكلهم لم ينه ، وكلهم يستحقون الذم والتوبيخ ، فيقال : نعم إلا قوم يونس ، وإلا قليلا .

ومما يبين أن مثل هذا التحضيض لا يستلزم النفي عن الجميع قوله : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان [ ص: 374 ] عظيم [النور :16] ، وقوله : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين [النور :12] . وقد كان من المؤمنين من قال لما سمعه : ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا ، سبحانك هذا بهتان عظيم . وكثير منهم أو أكثرهم ظن بعائشة خيرا ، مثل أسامة بن زيد وجاريتها وغيرهما ممن زكاها وبرأها . فعلم أن التحضيض لا يستلزم النفي العام .

فلهذا كان قوله : فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية [هود :116] ، التحضيض فيه عام لم يستثن منه أحد ، فلم يكن الاستثناء متصلا ، ولكن الاستثناء وقع من ترك المحضوض عليه ولوازم الترك ، من الذم والتوبيخ ، وهذا الترك قد كان في أكثر المحضوضين ، وقد صار يفهم منه أن هذه الصيغة لم تستعمل إلا إذا حصل ترك من جميع المحضوضين أو من بعضهم . فإذا فر الجيش مثلا قيل : هلا ثبتم ؟! وإذا فر الأكثر قيل : يستحقون العقوبة إلا فلانا ، ولا يقال : هلا ثبتم إلا فلان ؟! فإنه تحضيض على الثبات إلا لفلان ، وهذا ليس بمراد ، بل هو مستثنى من الترك وسلب الفعل والذم والعقاب ، لا من شمول الطلب والحض له . والله أعلم .

ثم يقال : هو مستثنى من القدر المشترك بين أنواع الحض والأمر ، حض وأمر لمن فعل ولمن ترك . وقد يقال مستثنى مما هو أخص من الحض ، وهو الترك والذم ، وكلا الأمرين واحد . والله أعلم .

ومثل هذا قوله : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك [هود :81] [ ص: 375 ] فمن رفع جعلها مستثناة من النهي ، فلم تنه عن الالتفات لأنها من المعذبين . ومن نصبه جعله منقطعا ، فإنه لما نهاهم عن الالتفات ، والالتفات موجب للعقوبة ، فقد يكون منهم من لا يطيع فيعاقب ، ومنهم من لا يعاقب ، فكأنه قال : فهل تطيع وتسلم ؟ فقال : نعم إلا امرأتك . وقيل : إنها استثناء من قوله : فأسر بأهلك ، وقد ذكروا الوجهين في قراءة النصب ، وهي قراءة نافع وغيره .

قال ابن الأنباري : على قراءة نافع يكون الاستثناء منقطعا ، معناه : لكن امرأتك فإنها تلتفت ، فيصيبها ما أصابهم . فإذا كان الاستثناء منقطعا كان التفاتها معصية لربها ؛ لأنه ندب إلى ترك الالتفات .

وقال الزجاج : من قرأ بالنصب فالمعنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك . ومن قرأ بالرفع حمله : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، وإنما أمروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيم ما نزل بهم من العذاب .

فإن قيل : فإذا جعل الاستثناء منقطعا تكون منهية عن الالتفات ، وعلى قراءة نافع ليست منهية ، والقراءتان لا تتناقضان .

قيل : الالتفات نوعان : نوع يكون مع محبة المعذبين ، كالتفاتها . ونوع يكون مع بغضهم ، كالتفات لوط لو التفت . [ ص: 376 ]

فنهوا عن الالتفات لئلا يروا عظيم العذاب ، فيحصل لهم روع وفزع . فكلهم منهيون عن النوع الأول ، وهي عاصية التفتت التفات محبة ، فكان الاستثناء في حقها منقطعا . وأما الثاني فهم نهوا عنه ، وهي لم تنه عن هذا الالتفات الذي هو مع البغض ، ليسلم صاحبه من الفزع والروع ، بل لو التفتت مع البغض لم تكن عاصية وإن حصل لها روع ، ولكن لما التفتت وهي محبة لهم على دينهم -والمرء على دين خليله- أصابها ما أصابهم ، لمشاركتها لهم في الذنب ، لا لمجرد الالتفات لو خلا عن دين القوم . ولهذا لو التفت لوط أو إحدى ابنتيه لم يصبه ما أصابهم . فهذا من دقائق معاني القرآن .

وقد ذكر ابن الجوزي القولين ، قال :

التالي السابق


الخدمات العلمية