الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الناس من يقول : إن من الذنوب ما لا يزول بالتوبة ، وقد روي أن منهم من جاء بصدقته فلم يقبلها ، كالذين قال فيهم : فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا [التوبة :83] . فهؤلاء لم يقبل منهم الجهاد لما امتنعوا عام تبوك ، وهذا لم تقبل منه الصدقة لما منعها أولا .

وقوله في الثلاثة الذين خلفوا : وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم [التوبة :106] دليل على أن هؤلاء الذين عذبوا لم يتب الله عليهم ، إما لكونهم لم يأتوا بتوبة تمحو ذلك الذنب ، هذا قول الأكثرين . وحينئذ فيكون التقصير منهم ، وهم ظلموا أنفسهم . وقوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر :53] ، على أنه إذا تاب توبة صادقة ، والشأن في تحقيق التوبة ، ولهذا أخر الثلاثة الذين خلفوا ، وقد كانوا [ ص: 388 ] نادمين من حين رجع الرسول والمؤمنون .

وهذا كما قد قيل : إن الله حجر التوبة عن كل صاحب بدعة ، بمعنى أنه لا يتوب منها ، لأنه يراها حسنة ، والتوبة إنما تتيسر على من عرف أن عمله سيئ قبيح ، فيكون عمله داعيا له إلى التوبة ، أما إذا اعتقد أنه حسن فيحتاج ذلك الاعتقاد إلى أن يزول ، وزوال الاعتقاد لا يكون بالوعظ والتخويف ، وإنما يكون بعلم وهدى يبين الله له فساد اعتقاده ، وصاحب الاعتقاد الفاسد جهله مركب ، وهو لا يصغي إلى أدلة مخالفيه وتفهمها لوجهين :

أحدهما : أنه لا يجتمع النقيضان في القلب ، فلا يجتمع ذلك ودليل نقيضه ، فإن دليل النقيض يستلزمه ، فلا يمكن أن يتصور دليل النقيض إلا مع عزوب ذلك الاعتقاد عن القلب ، لا مع حضوره ، ولأن اعتقاده لذلك القول يدعوه إلى أن لا ينظر نظرا تاما في دليل خلافه ، فلا يعرف الحق .

ولهذا قال السلف : إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية . وقال أيوب السختياني وغيره : إن المبتدع لا يرجع . واحتج بقوله في الخوارج : «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر في نصله فلا يرى شيئا ، وينظر في رصافه فلا يرى شيئا ، وينظر في قدحه فلا يرى شيئا ، وينظر في نضيه فلا يرى شيئا ، ويتمارى في الفوق قد سبق الفرث والدم » . [ ص: 389 ]

وهذا الذي ذكره هو كحال من فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه [التوبة :77] ، والذين لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [الأنعام :28] . لكن ليس هذا وصف جميع أهل البدع ، فليست البدعة أعظم من الردة عن الإسلام والكفر ، وقد تاب خلق من المرتدين والكفار ، لكن هو مظنة الخوف ، كالذين أسلموا من المرتدين كان الصحابة يحذرون منهم خوفا من بقايا الردة في قلوبهم . فهذا هو العدل في هذا الموضع ، وقد تاب خلق من رأي الخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم . لكن التوبة من الاعتقادات التي كثر ملازمة صاحبها لها ومعرفته بحججها يحتاج إلى ما يقابل ذلك من المعرفة والعلم والأدلة .

ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم » . قال أحمد وغيره : لأن الشيخ قد عسى في الكفر ، فإسلامه بعيد ، بخلاف الشاب ، لأن قلبه لين ، فهو قريب إلى قبول الإسلام . [ ص: 390 ]

ومما يناسب هذا قوله تعالى عن مسجد أهل الضرار : لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم [التوبة :110] ، هذا قرأه الجماعة ، وقرأ يعقوب «إلى أن تقطع » ، وعلى هذا فالريبة باقية إلى حين التقطع . وأما قراءة الجمهور فإنه استثنى فقال : إلا أن تقطع قلوبهم ، فإذا قطعت قلوبهم لم يبق ريبة في قلوبهم . وقد قال سفيان وغيره : هو التوبة . وقال كثير من المفسرين : هو التقطع بالموت أو في القبر أو يوم القيامة . وقول هؤلاء يناسب قراءة يعقوب ، فإنه لا تزال ريبة إلى حين تقطع القلوب . وأما قراءة الاستثناء فإن كانت توبتهم مقبولة كما قال سفيان وغيره فهي تحتاج إلى تقطع القلوب ، تتمزق بالتوبة ، فتحتاج إلى مشقة وشدة . وهكذا كثير من ذنوب أهل الاعتقاد والشبهات وأهل الشهوات القوية يحتاج صاحبها إلى معالجة قلبه ومجاهدة نفسه وهواه . وتوبة الثلاثة قد قال الله فيها : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه [التوبة :118] ، فكيف غيرهم ؟ وتوبة أبي لبابة وأصحابه كانت لما ربطوا أنفسهم في السواري ، وقوله : والله عليم حكيم يدل على أنه [ ص: 391 ] سبحانه يعلم من أحوال القلوب ما يناسب هذا ، وهو حكيم في حكمه بأنه لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم .

وإذا أريد بتقطع القلوب تقطعها بالتعذيب فقط فيكون ذلك لأنه علم أن هؤلاء المعينين لا يتوبون ، وإن أريد تقطعها بالتوبة أو بالتعذيب فلا بد لهم من أحد الأمرين : إما أن يقطعوها بالتوبة ، وإلا قطعت بالعذاب ، كما قال : إما يعذبهم وإما يتوب عليهم [التوبة :106] . وأولئك المعينون إذا لم يقطعوها بالتوبة قطعت بالتعذيب ، فالعذاب مخرج ما في النفوس من الريبة والنفاق ، لمن لم يخرجه بالتوبة ، والذنوب لا بد فيها من توبة أو تعذيب ، ولو أنه ينقص الحسنات لأجلها ، كما قال : إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، كما قد بسط في غير هذا الموضع . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية