الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 369 ] فصل في الإيلاء

من كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه

كتبه أخيرا بقلعة دمشق [ ص: 370 ] [ ص: 371 ] بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.

قال شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:

فصل

في طلاق الإيلاء

قال تعالى: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم . والذي عليه جمهور الصحابة والعلماء أنه لا يقع به الطلاق، حتى تمضي الأربعة، فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وإن طلق قبل ذلك جاز. وقد قالت طائفة: إن عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة أشهر، فإذا مضت وقع به طلقة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأول مذهب الثلاثة، وقولهم هو الصواب كما قد بين في غير هذا الموضع . لكن المقصود أنه متى طلق فقد قيل: إنه لا يقع إلا بائنا لئلا يملك الرجعة، وقيل: يقع رجعيا، وله الرجعة، ثم تضرب له مدة الإيلاء. وقيل: للإمام أن يطلق عنه إذا امتنع ثلاثا.

وهذه أقوال ضعيفة، والصواب القول الآخر الذي دل عليه القرآن، وهو أنه إذا طلق أو طلق عنه الإمام لم يقع إلا طلقة رجعية، لأن الله [ ص: 372 ] ذكر قوله والمطلقات عقب قوله وإن عزموا الطلاق ، فيجب أن تكون هذه المطلقة داخلة في قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . ولهذا يجب عليها العدة ثلاثة قروء باتفاق العلماء، وإن كان له عنها أربعة أشهر، وهذا يؤيد ما قررناه من أنها جعلت ثلاثة قروء لحق الزوج في الرجعة، وإذا كانت هذه المطلقة داخلة في قوله والمطلقات وجب أن يكون بعلها أحق بردها في العدة كما بينه القرآن.

لكن يقال: إن الله خيره بين شيئين: بين أن يفيء أو يطلق، وهو تخيير بين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فإذا طلق ثم أراد الرجعة فقد قدم على الطلاق، فيكون قد فاء بعد الطلاق، وحينئذ فعليه أن يطأها عقب هذه الرجعة إذا طلبت ذلك، ولا يمكن من الرجعة إلا بهذا الشرط، لأن الله خيره بين أن يفيء فيمسكها بمعروف، وبين أن يسرحها بإحسان، فإذا أراد أن يرتجعها فيمسكها بغير معروف لم يكن له ذلك. ولأن الله إنما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحا بقوله وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا . وإذا لم يكن مقصوده حسن عشرتها بالوطء لم يكن مريدا للإصلاح، فلا يمكن من الرجعة. ولأن الله لما خيره بين أن يفيء وبين أن يطلق، فإن طلق واستمر على ذلك فقد اختار الطلاق، ولكن الله جعله أحق من غيره في العدة، فإذا ارتجعها كان قد اختار إمساكها، لم يرد استمرار الطلاق، وحينئذ فيكون كمن لم يطلق، ولو لم يطلق كان عليه أن يطأها إذا لم يختر الطلاق، كذلك هذا. ولأنه لو سوغ أن يرتجع ولا يطأها أربعة أشهر، ثم يطلق ثم [ ص: 373 ] يرتجعها ولا يطأها أربعة لكان قد جعل له تربص سنة، وذلك خلاف القرآن، وفيه إضرار عظيم بها، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية