الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 376 ] والثالث: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين مصلحين، فإن كثرة الحلف ضرب من الجرأة عليه. هذا قول ابن زيد.

قلت: الحلف بالله كاذبا لا يجوز مطلقا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرم، والآية تضمنت نهيا يوجب التحريم، والحلف بالله تعظيم له. وقد حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - مرات متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع، قال تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق ، وقال تعالى: وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ، وقال تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن .

وما يروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلام لا إسناد له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نقل عن نبي قبله بإسناد يعرف. وطائفة من النساك يستحبون أن لا يحلف أحد قط، وينهون عن ذلك، ولكن ليس هذا شرع الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقا حتى عن الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" . فما كان واجبا أو مستحبا فقوله خير من السكوت عنه، والسكوت عن الواجب [ ص: 377 ] محرم. وما لم يكن خيرا فهو مأمور بالصمت عنه، فإنه عليه لا له، كما قد بسط هذا في مواضع .

وفي الحديث المرفوع: "لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" . وهذا مبسوط في موضعه.

وعامة السلف والخلف على أن المراد بالآية المعنى الأول، وهو أن لا يجعل الحلف بالله مانعا من فعل ما أمر الله به، فإن هذا حرام لا يجوز، لم يبح الله أن يجعل الحلف به مانعا من فعل ما أمر به، بل ما أمر به هو يحبه ويرضاه، وهو واجب أو مستحب، والحلف به على ترك ذلك يمين ليست بواجبة ولا مستحبة، فلا يجوز أن يجعل ما ليس بطاعة لله مانعا من طاعة الله. والله تعالى لما أنزل الكفارة جعل الكفارة تحلة اليمين، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" .

وأما قبل إنزاله الكفارة فآيات البقرة ليس فيها كفارة، فقيل: كان يجوز الحنث بلا كفارة، لكن هذا لم يثبت. وقيل: بل كان منهيا عن الحلف، ثم إذا حلف كان عاصيا قد ورط نفسه بين ذنبين، والحنث منهي عنه، وجعل اليمين مانعة من الخير منهي عنه. ثم إن الله تعالى شرع الكفارة، فصار الحالف قادرا على التكفير.

وهذه العبارة التي ذكرها أبو الفرج من أن معناها النهي، عن الحلف [ ص: 378 ] بالله على ترك طاعته، يناسب ما كان الأمر عليه قبل الكفارة، وعبارة كثير من المفسرين أن معناها إذا حلفت فلا تجعل حلفك بالله مانعا من فعل الطاعة، وهذا يناسب الحال بعد الكفارة، والآية تتناول هذا وهذا. قال كثير من المفسرين - واللفظ للبغوي -: معنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببا مانعا لكم من البر والتقوى، يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو بر فيقول حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر. وذكر الحديث الذي في الصحيح عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بيمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير".

وروى ابن أبي حاتم وغيره ما في تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مسروق وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن وعكرمة وطاوس ومكحول ومقاتل بن حيان وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي نحو ذلك. وقال : حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل نا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن عطاء قال: [ ص: 379 ]

جاء رجل إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرت إن كلمت فلانا فكل مملوك لي عتيق لوجه الله، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعل مملوكيك عتقاء لوجه الله، ولا تجعل مالك سترا للبيت، فإن الله يقول: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية، قالت: فكفر عن يمينك.

وروى عن السدي قال: وأما "تبروا" فالرجل يحلف أن لا يبر ذا رحمه، فيقول: قد حلفت، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبره ولا يبال بيمينه.

وعن عبد الكريم الجزري قال في قوله أن تبروا وتتقوا قال: التقوى يحلف ويقول: قد حلفت أن لا أعتق ولا أصدق.

وعن سعيد بن جبير في قول الله وتتقوا وتصلحوا بين الناس قال: كان الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيغضبه أحدهما أو يتهمه، فيحلف أن لا يتكلم بينهما في الصلح، قال: أن تصلوا القرابة وتتقوا وتصلحوا بين الناس فهو خير من وفاء اليمين في المعصية.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن السدي نحو ذلك، وقال: هذا قبل أن تنزل الكفارات.

وأما تفسير اللفظ من جهة العربية، فقال الفراء : والمعنى ولا [ ص: 380 ] تجعلوا الله معترضا لأيمانكم. وقال أبو عبيد : نصبا لأيمانكم. وقال طائفة- واللفظ للبغوي -: العرضة أصلها المد والقوة، ومنه قيل للدابة التي تصلح للسفر عرضة لقوتها عليه، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء: هو عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له. والعرضة كل ما يعترض له فيمتنع عن الشيء. ثم قال: ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببا، إلى آخر كلامه المتقدم.

قلت: فعلى هذا يكون التقدير لا تجعلوا الله معروضا لأيمانكم تقصدون الحلف به لئلا تفعلوا الخير، ويكون قوله أن تبروا وتتقوا من تمام ما نهوا عنه، أي لا تجعلوا الله محلوفا به لئلا تفعلوا الخير، فتجعلوا ما يجب من تعظيم حقه والحلف به مانعا لكم من فعل ما يحبه ويرضاه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإذا قيل: هو عرضة لكذا، أي هو أهل أن يتعرض إليه بكذا، فلا تجعلوه عرضة لليمين أن تبروا وتتقوا، أي: كراهة أن تبروا وتتقوا. هذا تقدير البصريين.

وتقدير الكوفيين لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا ، أي: السبب الداعي لكم إلى أن يكون عرضة لأيمانكم كراهة فعل الخير، فلما كرهتم فعل ما يحبه جعلتموه عرضة ليمينكم، لتكون اليمين به مانعة لكم من فعل ما كرهتموه من الخير، فهذا لا يجوز.

وعلى ما قال السدي المعنى: لا تجعلوا الله معترضا بينكم وبين [ ص: 381 ] ما أمر به. لكن لفظ الآية ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا ، ولم يقل "بينكم"، فتضمن العرضة معنى المنع؛ لأن المعترض بين الشيئين مانع بينهما، ويكون المعنى لا تجعلوا الله مانعا لكم من البر والتقوى، ويكون أن تبروا وتتقوا منصوبا بالعرضة. لكن هذا ضعيف في العربية، فإنه قال: عرضة لأيمانكم ، فدل على أنه معروض لليمين، وهو فعلة بمعنى المفعول، لا بمعنى الفاعل، وهو المعارض المانع.

(آخر ما كتب فيها، والحمد لله وحده. بلغ مقابلة بالأصل خط المؤلف، ومنه نقل. والحمد لله رب العالمين) .

* * * [ ص: 382 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية