الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا -والله أعلم- من التطهير الذي شرعه الله لهم، فإن الصدقة أوساخ الناس، فطهرهم الله من الأوساخ، وعوضهم بما يقيتهم من خمس الغنائم، ومن الفيء الذي جعل منه رزق محمد، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد وغيره : "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى [ ص: 78 ] يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".

ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامهم بكفاية أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة، لا سيما إذا تعذر أخذهم من الخمس والفيء، إما لقلة ذلك، وإما لظلم من يستولي على حقوقهم فيمنعهم إياها من ولاة الظلم، فيعطون من الصدقة المفروضة ما يكفيهم إذا لم تحصل كفايتهم من الخمس والفيء.

وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه، حيث قال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الآيات . فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم .

وذلك أن الفيء إنما حصل بجهاد المهاجرين والأنصار وإيمانهم وهجرتهم ونصرتهم، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفا عن أولئك، مشبها بتناول الوارث ميراث أبيه، فإن لم يكن مواليا له لم يستحق الميراث، فلا يرث المسلم الكافر، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم خرج عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء، حتى يكون قلبه مسلما لهم، ولسانه داعيا لهم. ولو فرض أنه صدر من [ ص: 79 ] واحد منهم ذنب محقق فإن الله يغفره له بحسناته العظيمة، أو بتوبة تصدر منه، أو يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته، أو يقبل فيه شفاعة نبيه وإخوانه المؤمنين، أو يدعو الله بدعاء يستجيبه له.

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعة كاتب كفار مكة لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم غزوة الفتح، فبعث إليهم امرأة معها كتاب يخبرهم فيه بذلك، فجاء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فبعث عليا والزبير، فأحضرا الكتاب، فقال: "ما هذا يا حاطب؟ "، فقال: والله يا رسول الله! ما فعلت ذلك أذى ولا كفرا، ولكن كنت امرأ ملصقا من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدا أحمي بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وأنزل الله تعالى في ذلك يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة الآيات .

وثبت في صحيح مسلم أن غلام حاطب هذا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب النار، وكان حاطب يسيء إلى مماليكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كذبت، إنه قد شهد بدرا والحديبية". [ ص: 80 ]

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة" .

فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فتح مكة التي كان - صلى الله عليه وسلم - يكتمها عن عدوه، وكتمها عن أصحابه، وهذا من الذنوب الشديدة جدا. وكان يسيء إلى مماليكه، وفي الحديث المرفوع: "لن يدخل الجنة سيئ الملكة" . ثم مع هذا لما شهد بدرا والحديبية غفر الله له ورضي عنه، فإن الحسنات يذهبن السيئات. فكيف بالذين هم أفضل من حاطب، وأعظم إيمانا وعلما وهجرة وجهادا، فلم يذنب أحد قريبا من ذنوبه؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية