الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
جواب سؤال سائل سأل عن

حرف "لو" [ ص: 314 ] [ ص: 315 ] الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الباهر البرهان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما يرضى به الرحمن.

سألت -وفقك الله- عن معنى حرف "لو"، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" على معناها المعروف؟ وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضبت الجواب اقتضابا أوجب أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وإني ليس يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك. فأقول، والله الهادي النصير:

الجواب مرتب على مقدمات:

إحداها: أن حرف "لو" المسئول عنها من أدوات الشرط، وأن الشرط يقتضي جملتين إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب، وربما سمي المجموع شرطا، وسمي أيضا جزاء. ويقال لهذه الأدوات أدوات الشرط وأدوات الجزاء، والعلم بهذا كله ضروري لمن كان له عقل وعلم بلغة العرب، والاستعمال على ذلك أكثر من أن يحصر، [ ص: 316 ] كقوله تعالى: ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ، ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ، ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء .

الثانية: أن هذا الذي تسميه النحاة شرطا هو في المعنى سبب لوجود الجزاء، وهو الذي تسميه الفقهاء علة ومقتضيا وموجبا ونحو ذلك، فالشرط اللفظي سبب معنوي. فتفطن لهذا، فإنه موضع غلط فيه كثير ممن يتكلم في الأصول والفقه، وذلك أن الشرط في عرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهل الكلام والأصول وغيرهم هو ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب، وعلامته أنه يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.

ثم هو منقسم إلى ما عرف كونه شرطا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال واللباس شرط لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ شرط لوجوب الصلاة، فإن وجوب الصلاة على العبد يتوقف على العقل والبلوغ، كما تتوقف صحة الصلاة على الطهارة والستارة واستقبال [ ص: 317 ] القبلة، وإن كانت الطهارة والستارة أمورا خارجة عن حقيقة الصلاة. ولهذا يفرقون بين الشرط والركن بأن الركن جزء من حقيقة العبادة أو العقد، كالركوع والسجود، وكالإيجاب والقبول؛ وبأن الشرط خارج عنه، فإن الطهارة يلزم من عدمها عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود الصلاة.

وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة، منها ما هو شرط للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرط للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرط للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرط للصحة. وكلام الفقهاء في الشروط كثير جدا، لكن الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنما يتم على قول من يجوز تخصيص العلة منهم، وأما من لا يسمي علة إلا ما استلزم من الحكم ولزم من وجودها وجوده على كل حال، فهؤلاء يجعلون الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء العلة.

وإلى ما يعرف كونه شرطا بالعقل وإن دل عليه دلائل أخرى، كقولهم: الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلم شرط في الإرادة، ونحو ذلك، وكذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تعرف بالعقل أو بالتجارب أو بغير ذلك. وقد تسمى هذه شروطا عقلية، والأول شروطا شرعية.

وقد يكون من هذه الشروط ما يعرف اشتراطه بالعرف، ومنه ما يعرف باللغة، كما يعرف أن شرط المفعول وجود فاعل، وإن لم [ ص: 318 ] يكن شرط الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعول المنصوب وجود فاعل، ولا ينعكس. بل يلزم من وجود اسم منصوب أو مخفوض وجود مرفوع، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوب ولا مخفوض، إذ الاسم المرفوع -مظهرا أو مضمرا- لا بد منه في كل كلام عربي، سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية.

فقد تبين أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدل عدمه على عدم المشروط ما لم يخلفه شرط آخر، ولا يدل ثبوته من حيث هو شرط على ثبوت المشروط.

وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواء كان المتكلم [نحويا] أو فقيها وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فإن وجود الشرط يقتضي وجود المشروط الذي هو الجزاء والجواب، وعدم الشرط هل يدل على عدم المشروط؟ مبني على أن عدم العلة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أومئ إليه.

الخوف لو فرض عدمه لكان مع هذا العدم لا يعصي الله، لأن ترك المعصية له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمر آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه كان لا يحسن أن يعصي الله. فقد أخبرنا عنه أن عدم خوفه لو فرض موجودا لكان مستلزما لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمور أخرى: إما عدم مقتض أو وجود مانع، مع أن هذا الخوف حاصل. [ ص: 319 ]

وهذا المعنى يفهمه من الكلام كل أحد صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوع توسع -إما في التعبير وإما في الفهم- اقتضى ذلك خللا إذا بنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان فهم صحيح رد الأشياء إلى أصولها، وقرر النظر على معقولها، وبين حكم تلك القواعد وما وقع فيها من تجوز أو توسع، فإن الإحاطة في الحدود والضوابط غير تحرير .

التالي السابق


الخدمات العلمية