الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذا تبين هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى الله ما نزل من الضر، والله سبحانه في كتابه قد أمر بذلك، وذم من لا يفعله، قال تعالى: فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، وقال تعالى: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ، وقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وفي الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك ، وفجاءة [ ص: 73 ] نقمتك، وجميع سخطك".

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدعو دعاء إلا ختمه بقوله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس وغيره أن يسأل العافية في الدنيا والآخرة، وعلم رجلا أن يدعو فيقول: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني"، ومثل هذا كثير.

والعبد إذا اشتكى إلى ربه ما نزل به من الضر وسأله إزالته لم يكن مذموما على ذلك باتفاق المسلمين، والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، بل الشكوى إلى الخلق قد تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام قال: فصبر جميل ، وقال: قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . وكان عمر بن الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فسمع نشيجه من أواخر الصفوف.

وهذا مما يدل على كذب الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما أصابه بفراق ولده من البث والحزن، ولم يكن [ ص: 74 ] مذموما بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين قال: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .

وقد قال تعالى: وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين . وقال تعالى: ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم .

فهؤلاء الأنبياء قد اشتكوا إلى الله، وأزال ما اشتكوا منه من الضر والغم والحزن ونحو ذلك، فكيف يمحى نبي من الأنبياء إذا اشتكى من ضر القمل وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سره؟ وأكثر ما يقال: إن العبد ينبغي له أن يرضى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه:

أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء، بل يستحب، وإنما الواجب الصبر، والصبر لا ينافي الشكوى.

الثاني: أن الرضا لا ينافي القضاء مطلقا، بل يرضى في الحاضر، ويسأل الله في المستقبل أمرا آخر، فإن الرضا إنما يكون [ ص: 75 ] بعد القضاء، والدعاء إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعه، فالرضا بما مضى لا ينافي طلب زوال المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدوم الرضا، فيسأل الله زوال الشدة التي يخاف معها زوال رضاه، فالداعي قد يكون راضيا وغير راض، كما أن الراضي قد يكون داعيا وغير داع.

الثالث: أن اختلاج المصيبة في السر لا ينافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا يدخل هذا في التكليف، فضلا عن أن يكون ذنبا، أو أن يستحق صاحبه زوال نبوته.

وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبا، وإما أن تكون غير مشروعة لنا في دين الإسلام، فلا يحل لأحد أن يحكيها لمن يتبعها، ولا أن يستحسن العمل بها في ديننا، ولا يمدح على ذلك. [ ص: 76 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية