الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي كلام طائفة ممن ينقل المقالات والأديان المقابلة بين الصابئين والحنفاء ، وهذا يتناول الحنيفية المحضة ملة إبراهيم ومن اتبعه من الأنبياء وأممهم ، فإنهم كانوا يعبدون الله وحده ، بخلاف الصابئين المشركين .

والصابئون نوعان : صابئون حنفاء ، وهم الذين أثنى عليهم القرآن ، وصابئون مشركون . وأما المجوس وسائر أنواع المشركين فليسوا حنفاء . [ ص: 185 ]

وقد ذكر طائفة في الكلام والمقالات -مثل أبي بكر ابن فورك وغيره- أن الذين ادعوا النبوة من الفرس مثل زردشت ومزدك وبهافريد كانوا ينتحلون ملة إبراهيم ويزعمون أنهم يدعون إلى دينه .

قال ابن فورك في مصنف له لما تكلم على إثبات النبوات والرد على من أنكرها من البراهمة حكماء الهند ، وذكر ما ذكره غيره من أهل الكلام والمقالات ، قال : إن البراهمة صنفان : صنف أنكروا الرسل أجمعين ، وصنف أقروا بنبوات بعضهم ، فمنهم من أقر بنبوة إبراهيم وجحد من كان بعده .

قال : فإن قال قائل : قد دللت على جواز بعثة الرسل ، فما الدليل على أن الأنبياء الذين بعثهم الله إلى خلقه من ذكرتم دون غيرهم؟

قيل له : الدليل على ذلك أنه قد نقل إلينا من الجهات المختلفات التي لا يجوز على ناقليها الكذب أنهم أتوا بمعجزات تخرج عن عادة الخلق ، مثل : فلق البحر ، وقلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وانشقاق القمر ، ولم ينقل لغيرهم من المعجزات ممن ادعى النبوة كما نقل لهم ، فدل ذلك على أنهم هم الأنبياء دون غيرهم ممن ادعى النبوة ولم يكن لهم معجزة تدل على صدقهم .

قال : ومما يدل على صدقهم أنا وجدنا كل واحد منهم في زمانه قد منع الناس عن الشهوات واتباع الهوى ، وقبض على أيديهم ، وحال بينهم وبين مرادهم ، وما سرت إليه أنفسهم ، ثم مع ذلك كلفوهم [ ص: 186 ] البراءة من الآباء والأبناء والأقارب ، ونبذ أهاليهم وراء ظهورهم ، وبذل أموالهم ، وخفض الجناح لهم ، والائتمار لأمورهم ، والجري تحت أحكامهم . وكل هذه الأحوال مما ينفر عنها البشر وتفر وتمل من تكلفهم ، فلولا أنهم صادقون فيما ادعوه ، وصححوا دعواهم بمعجزات ظاهرة وبراهين بينة تخرج ذلك عن حيل المحتالين ومخرقة الممخرقين ، لما كان يوجب ظاهر فعلهم قبوله .

ولو كان الخلق مكرهين في حياة واحد منهم لنفاذ أمره وقوته وغلبته لكانوا من بعد موته ومفارقته هذا العالم يرجعون إلى ما شاءوا عليه ، كما يرجع الملوك في الدنيا . فلما وجدنا الخلق جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يزدادون في كل يوم لهم محبة وطاعة وولوعا بهم وجزعا على ما فاتهم منهم من الرؤية والصحبة دل ذلك على أنهم كانوا أنبياء من قبل الله ، صححوا دعواهم بمعجزات ظاهرة ، وبراهين باهرة نيرة ، وأخذوا قلوب الخلق -العالم والجاهل- بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية