الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الرابع: الذي لا يكون عمله خالصا لله، وهو شر الأقسام، مثل جهاد المشركين للمسلمين ينصرون بذلك آلهتهم، فلم يعبدوا به ولا أحسنوا، حيث أهلكوا أهل الإيمان.

وكذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأعمال التي يفعلها الكفار لغير الله وليست خيرا في نفسها، من نصر أهل الكفر، وكذب على الله، وتكذيب برسله، واعتقاد للباطل.

وكذلك اتباع قوم مسيلمة لمسيلمة، وقتالهم معه، وكذلك أهل البدع والضلال التي يقصدون بها نصر أهوائهم. وكذلك الفجور والمعاصي التي تفعلها النفوس لأجل العلو في الأرض والفساد، وهذا الضرب كثير جدا.

وإذا كانت الأقسام الأربعة، فالقسم الأول هو المحمود، وأهله هم السعداء من جميع بني آدم من الأولين والآخرين، وبذلك جاء الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فإن أهل الكتاب تمنوا هذه الأمنية [ ص: 25 ] التي قالوا بألسنتهم، وقدروها بقولهم، وجمعوا فيها بين النفي- وهو دخول الجنة- عن غير اليهود والنصارى، وبين الإثبات لمن كان هودا أو نصارى، وهذا من باب اللف والنشر. أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فطالبهم بالبرهان على هذه القضية والدعوى الجامعة بين النفي والإثبات.

وكان في ذلك ما دل على أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل، كما طالب المثبت في قوله: أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، ومعلوم أن ليس مع اليهود والنصارى لا برهان شرعي ولا عقلي يدل على ذلك، فإن الرسل لم تخبرهم بهذا النفي، ولا هو مدرك بالعقل، ولهذا قال الله تعالى: تلك أمانيهم ، ثم قال تعالى: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه . وهذا حصول الخير والثواب والنعيم واللذة، ثم قال: ولا خوف عليهم والخوف إنما يتعلق بالمستقبل، ولا هم يحزنون والحزن يتعلق بالحاضر والماضي، فلا هم يخافون ما أمامهم، ولا هم يحزنون على ما هم فيه وما وراءهم، ثم إنه قال في الخوف: ولا خوف عليهم ولم يقل: يخافون، فإنهم في الدنيا يخافون مع أنه لا خوف عليهم، وقال: ولا هم يحزنون فلا يحزنون بحال، لأن الحزن إنما يتعلق بالماضي، وهم فأنواع الألم منتفية بانتفاء الخوف [ ص: 26 ] والحزن، فإن المتألم لا يخلو من حزن، فإذا انتفى الحزن انتفى كل ألم.

وقال في عملهم: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فإسلام وجهه كما قاله أئمة التفسير: هو إخلاص دينه وعمله لله، وقيل: تفويض أمره إلى الله . وهو يعم القسمين، كما سنبينه إن شاء الله، فإن إسلام وجهه يقتضي أنه أسلم نيته وعمله ودينه لله، أي جعله لله خالصا سالما، والإحسان هو فعل الحسنات، فاجتمع له أن عمله خالص، وأنه صالح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا" .

وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

وبهذا البيان يعرف بالعقل أن هذا الدين الحق هو أفضل الأديان، لأن الدين هو الخضوع والانقياد والعمل، فلا بد له من شيئين، من [ ص: 27 ] مقصود هو المعبود، ووسيلة هي الحركة، فأي معبود يسامي الله؟ وأي قصد للمعبود خير من أن يكون القاصد ذليلا له مخلصا له، لا متكبرا ولا مشركا به؟ وأي حركة خير من فعل الحسنات؟ فبهذا تبين أن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فإنه مستحق للثواب، كما تبين أنه لا أحسن منه.

وبيان ذلك أن الوجه إما أن يكون هو القصد والنية كما قال:


أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

والوجه مثل الجهة، مثل الوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، وقد قررت هذا في غير هذا الموضع، وهذا مقتضى كلام أئمة التفسير، وهو مقتضى ظاهر الخطاب لمن كان يفقه بالعربية المحضة من غير حاجة إلى إضمار ولا تكلف، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا .

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ ص: 28 ]

"إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما بعثت بالحنيفية السمحة".

فبين الله أنه لا دين أحسن من دين من أسلم وجهه لله، وهو محسن غير مسيء، واتبع ملة إبراهيم حنيفا.

وقال: واتخذ الله إبراهيم خليلا ، فدل بذلك على متابعة إبراهيم في محبته لله، ومحبة الله له، ولفظ "أسلم" يتضمن شيئين: أحدهما الإخلاص، والثاني الاتباع والإذلال. كما أن "أسلم" إذا استعمل لازما مثل: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وقوله: أسلمت لرب العالمين ، يتضمن الخضوع لله والإخلاص له.

وضد ذلك إما الكبر وإما الشرك، وهما أعظم الذنوب، ولهذا كان الدين عند الله الإسلام، فإن دين الله أن نعبده وحده لا شريك له، وهذا حقيقة قول لا إله إلا الله، وبه بعثت الرسل جميعها، ومن عبادته وحده أن لا نشرك به، ولا نتكبر عن أمره، فلا بد من الإيمان بجميع كتبه، [ ص: 29 ] وجميع رسله، وإلا لم يكن العبد مسلما له، ولا مسلما وجهه له، إذا امتنع عن الإيمان بشيء من كتبه ورسله، وهذا هو الإسلام العام الذي دخل فيه جميع الأنبياء والمرسلين، وأممهم المتبعين غير المبدلين.

التالي السابق


الخدمات العلمية