الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكون الشيء مقصودا ومحبوبا ومعبودا ولذيذا ونحو ذلك لا يثبت له في الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقا، لأن الأبدان الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووجده إياه مرا لما خالطه من المرة الصفراء.

وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما حمد من ذلك ما كان لله.

وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحاب في الله ما هو [ ص: 189 ] كثير مشهور، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تعالى: "حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتباذلين في " .

وكقوله: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله "، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا، جلهم لنا، لعلنا نحبهم! قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحام تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كراسي من نور، لا يحزنون إذا حزن الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس "، ثم قرأ قوله: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

وكقوله في صحيح مسلم فيما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن عبدا زار أخا له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكا، قال: أين تريد؟ قال: أزور أخا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمة تربها؟ قال: لا، قال: فهل بينك وبينه رحم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك ".

وفي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لله، وأبغض لله، [ ص: 190 ] وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ".

وفي الحديث في الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله ".

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار".

فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء تبع لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته.

لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه عن أنس: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من [ ص: 191 ] ولده ووالده والناس أجمعين ".

وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله! فلأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك "، فقال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: "الآن يا عمر".

ومحبته رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره .

وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يحب لذاته، وليس هذا لغيره، وهي أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ، وقال: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .

ونحن بينا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين سببا للآخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولا له، [ ص: 192 ] سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد.

فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببا سببا، وما ليس مقصودا مقصودا، فهذا هو الشرك الذي ضل به بنو آدم من الأولين والآخرين، حيث جعلوا بعض المخلوقات علة تامة لبعض، إما فاعلا ربا، وإما إلها معبودا. وهذا هو الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يقصد ويراد فإن عمله فاسد، كمن أحب الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه وتنفعه، فإنه وإن أحبها وقصدها وعمل لها فهذا هو الفساد. وإذا ضرب مثل ذلك بمحب العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراش للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك.

ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين سببا للآخر أو مقصودا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر، فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه.

وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق [ ص: 193 ] القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربها وخالقها. إذ الوجود فيه أشياء محدثة، ولا بد لها من محدث، وفيه حركات موجودة، ولا بد لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قسرية، لأنها إن كان المتحرك شاعرا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرا، فإن كانت بلا شعور على خلاف طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تحرك أولا عنه لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعلم أن كل حركة في العالم عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه بإذنه وأمره من أمر السماوات والأرض، كما قال تعالى: والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا ، فأقسم بالمخلوقات طبقا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم بالملائكة المقسمات أمرا. وكذلك قوله: والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا .

ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي [ ص: 194 ] مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إله هو إلهها ومعبودها سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه، ولا يكون حادثا من غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركا إلى نفسه، ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا يكون موجودا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركا لا يجوز أن يكون متحركا مريدا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن نفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا.

كما أنه إذا قدر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدما على نفسه، لكونه فاعلا، ومتأخرا عن نفسه، لكونه مفعولا، فهذا الذي ذكر من كون الإنسان يمتنع أن يكون فاعلا مفعولا يقتضي امتناع كونه عابدا معبودا. وكذلك يقال في كل ممكن ومحدث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذكر أولا هو دور بين اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يستدل به على إثبات الإله المعبود الخالق للممكنات والمحدثات. [ ص: 195 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية