الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولم يسب قط في الإسلام أحد من بني هاشم، لا علوي ولا غير علوي، لا في خلافة يزيد ولا غيرها، وإنما سبى بعض الهاشميات الكفار من المشركين وأهل الكتاب، كما سبى الترك المشركون من سبوه لما قدموا بغداد، وكان من أعظم [أسباب] سبي الهاشميات معاونة الرافضة لهم كابن العلقمي وغيره. بل ولا قتل أحد من بني مروان أحدا من بني هاشم- لا علوي ولا عباسي ولا غيرهما- إلا زيد بن علي، قتل في خلافة هشام. وكان عبد الملك قد أرسل إلى الحجاج: إياي ودماء بني هاشم، فلم يقتل الحجاج أحدا من بني هاشم لا علوي ولا عباسي. بل لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر فأمره عبد الملك أن يفارقها، لأنه ليس بكفؤ لها، فلم يروه كفوا أن يتزوج بهاشمية..

وأما معاوية لما قتل عثمان مظلوما شهيدا، وكان عثمان قد أمر الناس بأن لا يقاتلوا معه، وكره أن يقتل أحد من المسلمين بسببه، [ ص: 263 ] وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، فأحب أن يلقى الله سالما من دماء المسلمين، وأن يكون مظلوما لا ظالما، كخير ابني آدم الذي قال: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين . وعلي بن أبي طالب بريء من دمه لم يقتله ولم يعن عليه ولم يرض، بل كان يحلف وهو الصادق المصدوق: إني ما قتلت عثمان ولا أعنت على قتله ولا رضيت بقتله. ولكن لما قتل عثمان وكان عامة المسلمين يحبون عثمان لحلمه وكرمه وحسن سيرته، وكان أهل الشام أعظم محبة له، فصارت شيعة عثمان إلى أهل الشام، وكثر القيل والقال كما جرت العادة بمثل ذلك من الفتن، فشهد قوم بالزور على علي أنه أعان على دم عثمان، فكان هذا مما أوغر قلوب شيعة عثمان على علي، فلم يبايعوه، وآخرون يقولون: إنه خذله وترك ما يجب من نصره، وقوى هذا عندهم أن القتلة تحيزت إلى عسكر علي، وكان علي وطلحة والزبير قد اتفقوا في الباطن على إمساك قتلة عثمان، فسعوا بذلك، فأقاموا الفتنة عام الجمل، حتى اقتتلوا من غير أن يكون علي أراد القتال ولا طلحة ولا الزبير، بل كان المحرك للقتال الذين أقاموا الفتنة على عثمان.

فلما طلب علي من معاوية ورعيته أن يبايعوه امتنعوا عن بيعته، ولم يبايعوا معاوية، ولا قال أحد قط: إن معاوية مثل علي، أو إنه أحق من علي بالبيعة، بل الناس كانوا متفقين على أن عليا أفضل وأحق، [ ص: 264 ] ولكن طلبوا من علي أن يقيم الحد على قتلة عثمان، وكان علي غير متمكن من ذلك لتفرق الكلمة وانتشار الرعية وقوة المعركة لأولئك، فامتنع هؤلاء عن بيعته، إما لاعتقادهم أنه عاجز عن أخذ حقهم، وإما لتوهمهم محاباة أولئك، فقاتلهم علي لامتناعهم من بيعته، لا لأجل تأمير معاوية.

وعلي وعسكره أولى من معاوية وعسكره، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ". فهذا نص صريح أن علي بن أبي طالب وأتباعه أولى بالحق من معاوية وأصحابه. وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال: "يقتل عمارا الفئة الباغية".

لكن الفئة الباغية هل يجب قتالها ابتداء قبل أن تبدأ الإمام بالقتال، أم لا تقاتل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أن ترك علي القتال كان أكمل وأفضل وأتم في سياسة الدين والدنيا. ولكن علي إمام هدى من الخلفاء الراشدين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا". رواه أهل السنن ، واحتج به أحمد وغيره على خلافة علي والرد على من طعن فيها، وقال أحمد: من لم يربع بعلي في خلافته فهو أضل من حمار أهله.

التالي السابق


الخدمات العلمية