الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل: قوله: ما خلق الله في أرحامهن قد يكون هو الحيض.

قيل: إن الحيض لا يكون حيضا وهو في الرحم، ولا يكون حيضا حتى يخرج عن الرحم، وإذا خرج عن الرحم فليس هو في الأرحام. وإنما أمرهن الله أن لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، فليس يجوز أن يكون عني بذلك إلا الحبل.

قلت: فقد فسر الآية بأن المراد الحبل دون الحيض، وادعى أنه لا يجوز إرادة الحيض، لأنه إنما يكون حيضا إذا كان ظاهرا، دون ما إذا كان في الرحم. وهذه حجة ضعيفة، والسلف قد أطلق بعضهم القول بأنه الولد، وأطلق بعضهم القول بأنه الحيض، وبعضهم ذكر النوعين جميعا ، وهو الصواب، فإن لفظ الآية يعم هذا وهذا، ومن أطلق القول بأحدهما فقد يكون مراده التمثيل لا الحصر، فإن مثل هذا كثير فاش في كلام السلف. يذكرون في تفسير الآية ما يمثلون به المراد من ذكر بعض الأنواع، لا يقصدون تخصيصها بذلك. كما يقول المترجم إذا ترجم بعض الألفاظ وعين مسماها، فإذا قال له [ ص: 250 ] الأعجمي: ما الخبز؟ أخذ الرغيف وقال: هذا. وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر .

وأما الاحتجاج بقوله: في أرحامهن فيقال: هو سبحانه قال:

ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، فالظرف متعلق بقوله خلق ، فما خلق الله في رحمها لم يحل لها كتمانه، وكتمانه إخفاؤه عن غيرها، وذلك يتناول كتمانه بعدما يخرج من الرحم، مثل كتمان الولد إذا ولدته، وكتمان الدم إذا حاضت، فإنها إذا كتمت ذلك عن الزوج وغيره، ولم تخبر بذلك، فقد كتمت ما خلق الله في رحمها، فإن هذا خلق في رحمها، وإن كان قد خرج من الرحم بعد ذلك، وهي منهية عن كتمانه مطلقا، لم يخص النهي بوقت وجوده في الرحم، لاسيما وهو إذا فسره بالولد، فولدته وكتمته، لم يقل إنها ولدت، لئلا يظن أن عدتها انقضت، أو لتضيع نسبه، على أنه كان ذلك محرما، وكانت منهية عن ذلك. ولو قيل: الرجل يكتم ما تحت ثيابه أو ما في منديله، كان كإمساكه، وإن خلع ثيابه حيث لا يرى، وإن أخرج ما في المنديل حيث لا يرى، فالظرف هنا متعلق بالفعل العامل فيه، كالاستقراء وكالخلق في الآية ليس معلقا بالكتمان، والمنهي عنه الكتمان مطلقا، وحيث نهي الإنسان عن الكتمان فإنه متناول لمثل هذا، كقوله: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ، وقوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ، وقوله: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب [ ص: 251 ] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" .

فلو تكلم بالشهادة حيث لا ينتفع صاحبها، ولم يظهرها حيث ينتفع بأدائها، كان كاتما لها، وإن كان قد أخرجها من فمه. وكذلك كاتم العلم. والمرأة على كتمان الحيض أقدر منها على كتمان الولد، فإنها إذا كانت حاملا انتفخ بطنها، وعرف حملها كثير من الناس، ثم إذا ولدته فإنه يظهر أعظم مما يظهر دمها، فإن دمها قد يسيل ويخرج ولا يعلم بذلك أحد، فتكون دلالة الآية على النهي عن كتمان الحيض أقوى، وإن كانت قد تدل على الآخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية