الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد دل على المواقيت في آيات أخرى، كقوله: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ، فبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض حين الصباح وحين المساء وعشيا وحين الإظهار، فالمساء يتناول المغرب والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.

وقال تعالى: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ، وفي الآية الأخرى: قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود .

فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته من حديث [ ص: 345 ] جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ قوله: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . ومن آناء الليل مطلق في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء.

والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقت يخصها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله: قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ، فلا موجب لخصوص التكبير عندهم، بل مطلق الذكر.

فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل قط إلا بتكبير، ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا بتكبير، ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر فيقال لهم: القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلق في الأول وفي الطرف الثاني، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت الأول غير مرة، وفي الوقت الثاني غير مرة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: اركعوا واسجدوا مطلق، [ ص: 346 ] فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد، فيفيد الوجوب دون الفريضة. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة، ومع قوله: "لا صلاة إلا بأم القرآن" وأن "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج" ، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون الفريضة، وهذا خبر واحد لا يقيد به مطلق القرآن.

ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال، كقوله لما بين المواقيت الخمسة: "الوقت ما بين هذين" ، وقوله: "ما بين هذين وقت" ، دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله: "لا صلاة إلا بأم القرآن" وقوله: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج".

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : "سيكون بعدي أمراء [ ص: 347 ] يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة"، وهو الوقت الذي بينه لهم. والأمراء إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، أو العصر إلى آخر النهار. ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل، لأنهم سألوه عن الأمراء نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا"، وهذه كانت صلاتهم. ودل على أن هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد الغروب، فإن من قال: لا يصليها إلا بعد الغروب قد قوتل بلا ريب. وكذلك من قال: لا يصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يقاتل بلا ريب. وقد قال ابن مسعود وغيره في قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، قالوا: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقت المشترك أو وقت الاضطرار، ولم يريدوا بذلك تأخير صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى صلاة النهار، فإن الخلف الذين كان ابن مسعود يسميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وغيره- لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يسميهم "خلف"، ويقول: "ما فعل خلفكم؟ "، فالخلف لم يكونوا يصلون بغير الفاتحة، ولا بغير التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يصلون في الوقت المطلق في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دل الشرع على وجوب الصلاة في الوقت المختص ذموا لأجل ترك هذا الواجب، مع [ ص: 348 ] أن في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما فيه من إطلاق قوله: واذكر اسم ربك ، وقوله: فاقرءوا ما تيسر منه . والسنة والآثار دلت على الوقت المشترك، ولم تدل سنة على الصلاة بغير فاتحة، فعلم أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تدل على أن الأوقات في حق المعذور ثلاثة، وأن ذلك لم يعارضه دليل شرعي أصلا، وما قدر معارضا له فالإيجاب به أضعف من الإيجاب بما دل على الفاتحة والتكبير.

وقوله تعالى: ومن آناء الليل وقوله: وزلفا من الليل كان مطلقا، دل على أن جميع الليل وقت في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني وقتا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحد أن يؤخر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طهرت والمجنون إذا أفاق والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكر فيصلون المغرب والعشاء، كما كانوا يصلون الظهر والعصر قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم، وهو قول الجمهور. [ ص: 349 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية