الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 281 ] وهذه الآيات تدل على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه:

الأول: أنه قال وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ، وهذا يدل على أن كل مطلقة فإنها تتربص ثلاثة قروء، وأن بعلها أحق بردها في ذلك، فلو كان المطلق مخيرا بين إيقاع واحدة وثلاث لم تكن كل مطلقة كذلك، بل كان هذا وصف بعض المطلقات.

فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة.

قيل: قد بين ذلك بقوله فيما بعد الطلاق مرتان ، تبين أن هذا الطلاق هو مرتان فقط، والثالثة قوله فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . وقبله قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، فكان تمام الكلام يبين المراد، ولم يك في ذلك خروج عن مدلول القرآن ومفهومه وظاهره، بخلاف ما إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث.

وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصها في تمام الكلام بقوله فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، فيبقى ما سواها على ظاهر القرآن وعمومه.

[ ص: 282 ] الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذن فيه وشرعه، فإنه لما قال: فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ، وقال: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ، وقال: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ونحو ذلك، دل على أنه أذن في الطلاق وأباحه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحه، بل الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بين حكم الطلاق الذي أباحه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومه; وإذا قيل: هو من المباح، والقرآن يعم الطلاق المأذون فيه والمحظور، كان ذلك مخالفا لظاهر القرآن.

الوجه الثالث: أنه قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ، وهذا صفة الطلاق الرجعي، فدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله والمطلقات ، فالمطلق ثلاثا ابتداء لا رجعة له، ومن لم يوقع إلا طلاقا لا رجعة فيه فقد خالف كتاب الله.

الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك الطلاق مرتان ، ثم قال: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام أحمد وغيره أنه قيل: يا رسول الله! فأين الطلقة الثالثة؟ قال: في قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . وهذا معناه أنه جوز إمساكها بعد الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا [ ص: 283 ] تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . وقد فسر بعضهم معناه بأن قوله أو تسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوه كما قد ذكر في موضع آخر. ومعلوم أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاث إمساك بمعروف.

الوجه الخامس: أن قوله الطلاق مرتان لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله والمطلقات يتربصن ، وهو الطلاق الرجعي، فدل ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو الطلاق الرجعي الذي يقع مرة بعد مرة، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والثالثة قوله فإن طلقها .

الوجه السادس: أن قوله مرتان إما أن يريد به مرة بعد مرة، كما في قوله ثم ارجع البصر كرتين ، وكما في قوله تعالى: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات الآية. ومعلوم أن الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمة واحدة، فلو قال: "سلام عليكم، أأدخل ثلاثا" لم يكن قد استأذن ثلاثا. وكما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال في يوم مئة مرة سبحان الله وبحمده حطت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر" ; وفي مثل قوله: "سبح ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين" ; وقوله: "كان إذا سلم [ ص: 284 ] سلم ثلاثا" ، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظ العدد فيه تكرير القول.

لاسيما وهو لم يقل: "الطلاق طلقتان"، وإنما قال الطلاق مرتان .

وإذا قال: "هي طالق ثلاثا" قد يقال: إنه طلقها ثلاثا، لكن لا يقال: طلقها ثلاث مرات، بل إنما طلقها مرة واحدة. وكذلك لو قال: "هي طالق طلقتين" إنما يقال: طلقها مرة واحدة، لا يقال: طلقها مرتين.

وإما أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق ثلاث"، لم يقل: "الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول، فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرة بعد مرة; والثالثة الطلاق بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى نؤتها أجرها مرتين هو على مقتضاه، أي: مرة ومرة، وليس المراد إيتاء واحدا، بل إيتاء مرتين.

الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلق تطليقا، ومعلوم أن التطليق فعل يفعله المطلق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يعقل أن يكون مرتين، إلا إذا قيل مرة بعد مرة، فأما إذا طلقها بكلمة واحدة فهذا لم يصدر منه الطلاق إلا مرة واحدة لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال: إنه طلقها مرتين، ولا يفهم لفظ "طلقها مرتين" بدون تكرير التطليق.

يدل على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدل على ما يدل عليه [ ص: 285 ] قول القائل "طلقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلا أنه طلقها مرة بعد مرة، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل: "سبح مرتين أو ثلاثا" و"هلل مرتين أو ثلاثا" ونحو ذلك، فهم منه أنه قال ذلك مرة بعد مرة، وكذلك إذا قيل "كلمه مرتين أو ثلاث مرات".

ومنه قوله تعالى: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، وقوله تعالى: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم إلى قوله ثلاث مرات ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : "من قال في يوم مئة مرة سبحان الله وبحمده، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في يوم مئة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له مئة حسنة، وحط عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلما قال أو زاد عليه".

وقوله في الحديث الصحيح : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة"، وقوله في الحديث الصحيح : "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف [ ص: 286 ] أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلا فيما إذا أخر الطلقة الثالثة عن الطلقتين، لا إذا جمع الجميع.

الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ، ومعنى ذلك باتفاق المسلمين: فإن طلقها الذي طلقها مرتين فلا تحل له من بعد هذا الطلاق الثالث حتى تنكح زوجا غيره، فإن طلقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، أي: ينكحها نكاحا ثانيا إن ظنا أن يقيما حدود الله، وحينئذ فالله تعالى إنما حرمها في القرآن بطلقة وقعت بعد الطلاق مرتين.

الوجه العاشر: أنه قال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ، فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعلم أن جمع الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكون داخلا في مسمى التطليق، فلا يكون مشروعا، فإنه لو دخل في مسماه لزم مخالفة ظاهر القرآن وتخصيص عمومه.

فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين.

قيل: قد بين ذلك بقوله الطلاق مرتان إلى قوله فإن طلقها ، فقد بين أن الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط.

الوجه الحادي عشر: أنه قال الطلاق مرتان ، ولم يقل "ثلاثا"، مع العلم بأنه يملك أن يطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعلم أنه أراد أن يبين أن الطلاق الذي هو أحق برجعتها فيه مرتان، ولو [ ص: 287 ] قيل: أراد: الطلاق الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعها، فإن الرجعي حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا قيل "مرتان"، فإنه لا يكون إلا مرة بعد مرة.

فإن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان علم أن لنا طلاقا رجعيا وطلاقا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرم، وهو الثلاث.

قيل: لفظ الطلاق إما أن يعم كل طلاق أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو المعهود، وعلى التقديرين فإنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرة، ولا يكون إلا رجعيا، فمن أثبت طلاقا بكلمة توجب البينونة فقد خالف دلالة القرآن، فضلا عن طلاق واحد يوجب التحريم.

الوجه الثاني عشر: أنه قال ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، وهذا لا يتأتى في جمع الثلاث.

الوجه الثالث عشر: أنه قال ولا تتخذوا آيات الله هزوا ، وقد روي أن جمع الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه سمعت محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا أقتله؟

الوجه الرابع عشر: أنه قال واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ، وهذه النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن [ ص: 288 ] يطلقها مرة بعد مرة، وأن يراجعها بعد التطليق، فأما إذا حرمها عليه في أول تطليق يطلقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب النعم، بل قد جعله عذابا بقوله: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وقوله: ذلك جزيناهم ببغيهم .

الوجه الخامس عشر: قوله وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ، والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون أي: يؤمرون به، وقوله: يعظكم الله أن تعودوا لمثله أي: ينهاكم الله. فدل على أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد أباح لهم الثلاث جميعا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلها إذا كان لم يذنب فلا يوعظ قبل التطليق ولا بعده، والقرآن يدل على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق.

الوجه السادس عشر: قوله وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، فإن هذا عام في الطلاق الذي ذكره الله في كتابه، وجعله مرتين، فلو كان قد أذن في جمع الثلاث لم تكن الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلاف ظاهر القرآن وعمومه.

الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداء، ثم للأمة بعد الصحابة، ومعلوم أن الخطاب بالطلاق الذي ذكر الله أحكامه، [ ص: 289 ] كقوله: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ، وقوله: الطلاق مرتان ، وقوله: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، وقوله: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن لا يتناول جمع الثلاث، وإنما يتناول من طلق مرة بعد مرة، فدل ذلك على أن هذا هو الطلاق المعروف عند المخاطبين بالقرآن ابتداء.

ودل ذلك على أن جمع الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان كذلك لكان يستثنيه ويبينه، وإلا كان القرآن قد أريد به خلاف ظاهره وعمومه بلا بيان من الله ورسوله.

الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلوم أن ظاهر القرآن وعمومه يدل على أن الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلاف ظاهره فلا بد من بيان من الله أو رسوله لذلك. ومعلوم أنه ليس في القرآن آية تدل على إباحة جمع الثلاث، ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت قيس إنما فيه أن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات، وحديث الملاعنة لما طلقها ثلاثا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلق من حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثا، وطلاق هذه زيادة توكيد في مفارقتها، بل هو لغو لم يوجب الفرقة التي يوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتف في حق هذه. ولو قدر أنه فعل منكرا، فالمنكر إذا بين الله ورسوله أنه منكر لم يجب بيان ذلك في كل مجلس. وهذا جواب ثان عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلا مجرد سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إذا بين تحريم الشيء لم يكن سكوته عن إنكاره كل وقت دليلا على الجواز.

الوجه التاسع عشر: أن الله حرمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى [ ص: 290 ] تنكح زوجا غيره، ولم يبح له أن يطلقها رابعة، وهذا عقوبة له، كما قال تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وقوله: ذلك جزيناهم ببغيهم . فإنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لم يكن قادرا على تزوجها ولو رضيت به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج بمن لا يطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوج امرأته بغيره. ولهذا حرم على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح أزواجه من بعده، إكراما للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فدل على أن تحريمها حتى تنكح زوجا غيره إهانة له، فإنه إذا كان منع غيره من التزوج بامرأته إكرام، فاشتراط تزويج غيره في الحل وجعل ذلك واجبا في عودها إليه إهانة له، والإهانة لا تكون إلا لمذنب.

فإن قيل: فالله أباح الطلاق.

قيل: لم يبحه مطلقا، لكن أباحه بعدد محصور، وأن تحرم عليه امرأته بعد الثالثة، والأمر الذي لم يبح فيه إلا مقدار معين وحرمت عليه بعد ذلك المقدار - لا يكون مباحا مطلقا، بل هو بمنزلة ما أبيح من الحرير، فإنه أبيح للنساء، وأبيح منه عرض كف للرجال; وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر بمكة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" . وقال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث" . وأذن للمهاجر أن [ ص: 291 ] يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على غير الزوج ومقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخص في الثلاث منه للحاجة إلى ذلك.

كذلك الطلاق، لما لم يبح منه إلا الثلاث دل على أن الأصل فيه الحظر، والمعنى أن الرجل خير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم أنه إذا أبيح مجموع التطليق وتحريمها عليه لم يكن الطلاق وحده مباحا، فمن ظن أن الطلاق مباح مطلقا كما يباح الأكل والشرب فقد غلط، بل إذا اقتصر على ثلاث تطليقات وحرمت بعد الثالثة دل على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن جمع الثلاث لا حاجة إليه، فلا يباح .

* * * [ ص: 292 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية